تشغيل الوضع الليلي
حـــجُّ الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه الشريف)
منذ 5 سنوات عدد المشاهدات : 3760
بقلم: علوية الحسيني
إنّ الاعتقاد بأنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) حيٌّ أمرٌ مفروغ منه في عقيدتنا والدليل عليه جزمي! وبالتالي يثبت له جميع ما يثبت للأحياء -وإن كان غائبًا عن ان نعرفه، لحكمةٍ إلهية- فله ما لنا من حقوق, وعليه ما علينا من التزامات, مع فارقٍ جوهري في الأفضلية له, كونه أتقى وأنقى وأشرف وأكمل من سائر العباد اليوم؛ فعقيدتا في الأئمة "أنَّهم بشر مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وإنما هم عباد مكرمون، اختصّهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته"(1). وعليه ينعقد الكلام حول هذا الموضوع ضمن النقاط التالية:
■النقطة الأولى: الحجُ مفروضٌ على جميع العباد ومنهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف):
من الالتزامات المفروضة على العباد هو الحج, ذلك الفرض الثابت في الكتاب والسنة القطعية, ولا يخفى أنّه أحد فروع الدّين, فأوجبه الله تعالى على عباده جميعًا حال توفر شرائطه؛ قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ومَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}(2). فظهور الآية الكريمة واضح في وجوب الحج على المستطيع, ولا قرينة صارفة من الوجوب إلى الاستحباب, بل نجد أنّه تعالى ذيّل الآية نفسها بأن التدارك للحج كافر.
وبما أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) نفرٌ من الناس – وهذه عقيدتنا به كما أسلفنا، واختلفنا عن الغلاة- فيجب عليه الحج مع توفر الشرائط.
كما وأنّ الإمام الصادق (عليه السلام) روي عنه تأكيده على هذه الفريضة المقدسة, ناعتًا تاركها باليهودي أو النصراني؛ روي "عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: من مات ولم يحجّ حجّة الاسلام، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانيا" (3).
إذًا فلا يمكننا القول بأنّه (عجّل الله فرجه الشريف) يكفر بالحج, ولم يذهب إليه -مع فرض تحقق الاستطاعة-, أو أنّه طيلة حياته لم يحج بيت الله الحرام, بزعم كونه غائبًا؛ إذ هذا مدفوع بأمور عديدة, منها: تفضيل الله تعالى له "كإمام منصًّب إلهيًا, مفترض الطاعة"(4)،
ومنها: إنّ عقيدتنا بالأئمة (عليهم السلام) عمومًا أنّهم "في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر من العلم، والتقوى، والشجاعة، والكرم، والعفّة، وجميع الاَخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، لا يدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به"(5), فإذا كانوا لا يدانيهم بشر في طاعة الله تعالى ومكارم الأخلاق, فكيف يمكن فرض احتمال كفر أحدهم بفرعٍ من فروع الدّين؟!
■النقطة الثانية: كيفية الجمع بين حجّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) وغًيبته:
إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروضٌ عليه الحج -مع توفر شروط الحج- كسائر التكاليف الشرعية, فيجب عليه تأديته, وهذا كافٍ للرد على من آمن بالغَيبة على أنّها انزواء الإمام في بقعة من بقاع الأرض.
بل، ولو سلّمنا جدلاً بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) منزوٍ في أرض مكة المكرمة, فمجرّد أدائه لمناسك الحج ينافي المعنى اللغوي للانزواء, سواء أكان الانزواء بمعنى الاعتزال عن الناس, أو كان بمعنى اللبث في زاوية مكانٍ معيّن.
*فأمّا الأول فمدفوع بما رواه الشيخ الصدوق, والشيخ الطوسي, عن محمد بن عثمان العمري، أنّه قال: "واللهِ إنّ صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه"(6), ففي الحديث دلالة على اختلاط الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) بالناس, ودحض شبهة اعتزاله.
*وأما الثاني فمدفوع بما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "في القائم سُنّة من موسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من عيسى، وسنّة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فأمّا سنّة موسى فخائف يترقّب، وأمّا سنّة يوسف فإن اخوته كانوا يُبايعونه ويُخاطبونه ولا يعرفونه..."(7), ففي الحديث دلالة عرفية تفيد أنّ الخائف المترقب متنقل بين مكانٍ وآخر؛ خوفًا من عثور أعدائه عليه, والتنقل غير اللبث في مكانٍ معيّن, فدحضت شبهة الانزواء.
ومن هذا نستنتج وجوب تنقله (عجّل الله فرجه الشريف) في بقاع الأرض, وعلى فرض تنقله فإنّه يؤدي ما عليه من واجبات إلهية, ومنها فريضة الحج.
يذكر إنّ حضور الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) في موسم الحج في زمن غيبته هو أحد انجازاته قبل ظهوره المعلن, وحضوره ذلك يكون طبيعيًّا, لا يحتاج إلى اعجازٍ, نعم لا يضر اثبات حضوره الحج عدم معرفته, بعد أن أثبتنا وجوب تنقله في بقاع الأرض "روى الصدوق, عن عبيد بن زرارة, قال: سمعتُ أبا عبد الله يقول: يفقد الناس إمامهم، فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه"(8).
■النقطة الثالثة: شخص الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) تحت ضوء شرائط الحج:
للحج شرائط لابد من توفرها(9) حتى يكون منجّزًا في ذمة المكلّف, فعلى فرض توفرها في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ووجوب الحج عليه نسردها مع بعض التفاصيل:
1- البلوغ
إنّ الكلام في بلوغ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروغٌ منه, إذ يذكر لنا التاريخ أنّه عجل الله تعالى فرجه ولد سنة 255 للهجرة.
2/ العقل
كما إنّ الكلام في سلامة عقل الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) من الجنون بكافة أقسامه نافلة من القول؛ فعقيدتنا في الأئمة أن يكونوا متصفين بأكمل الصفات الخلقية والعقلية؛ حتى توجب التفاف الناس حولهم, ومن ثم التمكن من هدايتهم.
3- الحرية
وأيضًا الكلام في حرية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) مفروغ منه؛ إذ ليس من صفات الأئمة (عليهم السلام) أن يكونوا عبيدًا لغيرهم, ثم يعتقون حتى يصبحوا أحرارا, بل هم أحرار أسياد.
4- الاستطاعة
ويعتبر في هذا الشرط أمور، منها:
الأول: السعة في الوقت
أي أن يسع الوقت للذهاب إلى بيت الله الحرام من مسكن الحاج فيستطيع أن يصل في الوقت المناسب, وهذا شرط من السهل توافره في حجّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ كيف لا, والأرض تطوى له فيصل إلى أي بقعة من بقاع الأرض متى ما شاء, بإذن الله القادر المختار؛ روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "القائم منصور بالرعب مؤيد بالنصر، تطوى له الأرض وتظهر له الكنوز ، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ويظهر الله عزوجل به دينه ولو كره المشركون..."(10), فالرواية وإن كان ظاهرها يتكلم عن زمن الظهور, إلاّ أنّه لا يستبعد ثبوت طي الأرض للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) في زمن غيبته, وذلك يرجع إلى قدرة الله تعالى الواسعة.
إذًا بمجرد طي الأرض له (عجّل الله فرجه الشريف) يصل إلى مكة المكرمة, ويؤدي حجّه, هذا على فرض وجود الإمام في أرضٍ غير أرض مكة, وقد يؤيد هذا الفرض ما جاء في دعاء الندبة: "لَيْتَ شِعْري اَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوى، بَلْ اَيُّ اَرْض تُقِلُّكَ اَوْ ثَرى؟".
وأما على فرض وجوده في أرض مكة فمن بابٍ أولى أنّه سيكون له سعة من الوقت للوصول إلى الحرم المكي وأداء مناسك حجّه.
وقد يؤيد هذا الفرض ما جاء في دعاء الندبة: "اَ بِرَضْوى اَوْ غَيْرِها اَمْ ذي طُوى؟" رضوى: "هو جبل على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة" (11). "ميامنه طريق مكة ومياسره طريق البريراء لمن كان مصعدا الى مكة"(12).
أمّا ذو طوى: "فهو موضع بمكة المكرمة داخل الحرم هو من مكة على نحو من فرسخ ترى بيوت مكة منه، قال في (المصباح) ويعرف بالزاهر في طريق التنعيم، وفي (القاموس) ذي طوى، موضع قرب مكة"(13).
الثاني: صحّة البدن وقوّته
أي أنّ الحاج يجب أن لا يكون سقيمًا, هزيلاً, فيمتنع عليه أداء مناسك الحج, وهذا شرط من المفروغ ثبوته في جسد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) " قال أبو عبد الله عليه السلام: القوة القائم عليه السلام والركن الشديد ثلاثمائة وثلاثة عشر"(14).
الثالث: تخلية السرب
ويقصد بها أن يكون الطريق مفتوحاً ومأموناً، فلا يكون فيه مانع لا يمكن معه من الوصول إلى الميقات أو إلى الأراضي المقدّسة، وكذا لا يكون خطراً على النفس أو المال أو العرض، وإلاّ لم يجب الحجّ .
والإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) لا موانع تقف بينه وبين حضوره لأي مكان؛ وفقًا للمشيئة والقدرة الإلهية.
الرابع: النفقة، ويعبّر عنها بالزاد والراحلة
ويقصد بالزاد: كلّ ما يحتاج إليه في سفره من المأكول والمشروب وغيرهما من ضروريات ذلك السفر، ويراد بالراحلة: الوسيلة النقليّة التي يستعان بها في قطع المسافة، ويعتبر فيهما أن يكونا ممّا يليق بحال المكلّف.
فأما زاد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) فلم تنص عليه الروايات, إلاّ أننا ممكن أن نثبته من خلال القول بأنّه راجع إلى اعتقادنا في الأئمة (عليهم السلام) بأنّهم بشرٌ مثلنا يجوعون ويعطشون, فيكون من البديهي توفره.
وأمّا راحلته فغيب, كلّ ما علينا هو الإيمان بتوفرها مهما كان نوعها.
الخامس: الرجوع إلى الكفاية، وهو التمكن بالفعل أو بالقوّة من إعاشة نفسه وعائلته بعد الرجوع إذا خرج إلى الحجّ وصرف ما عنده في نفقته، بحيث لا يحتاج إلى التكفّف ولا يقع في الشدّة والحرج.
وهذا الشرط منوط بالعلم الغيبي؛ وإذا تكفّل الله تعالى وليّه (عجّل الله فرجه الشريف) فليس لدينا سوى الإيمان بمجمل الأمر, دون الخوض في تفاصيله, مع الانتباه إلى أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) لا دليل جزميا على انه متزوج حتى يشمله الشرط بحذافيره –من المأمن على مصرف عيال الحاج-.
ومع احتمال عمل الإمام وتكسبه للمعيشة يتحقق هذا الشرط؛ استنادًا إلى سيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) بتكسبهم للمعيشة, وليس عملهم انتقاصًا من مكانتهم؛ إذ فيهم الراعي للأغنام, والحداد, والنجار, وما شابه ذلك من المهن.
■النقطة الرابعة: سؤالٌ وجواب:
قد يطرح البعض سؤالاً مفاده: إذا كان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) قد حجّ الحج الواجب عند توفر الشرائط, فلماذا يشهد موسم الحج كلّ عام؟
وجوابه: هنالك روايتان تنصان على تواجد الامام سابقا في الكعبة دون التصريح بأنّ وجوده هناك كان للحج الواجب, كما "روى الشيخ الصدوق, عن الحميري, أنّه قال: سألت محمد بن عثمان العمري، فقلت له: أرأيتَ صاحب هذا الأمر؟ فقال: نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: اللهم أنجِزْ لي ما وعدتَني"(15)، فدعاء الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) عند بيت الله الحرام لا يخلو من احتمال وجوده لأداء الحج الواجب.
ورواية اخرى بنفس المفاد إلاّ أنّ المسموع من دعائه (عجّل الله فرجه الشريف) هو دعاء آخر, وعند ركنٍ محدد, "روى الشيخ الصدوق, عن الحميري, أنّه قال: سمعتُ محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه يقول: رأيتُه صلوات الله عليه متعلّقاً بأستار الكعبة في المستجار، وهو يقول: اللهم انتقِم لي من أعدائي".(16)، وعلى فرض تعدد مرات رؤيته عند بيت الله الحرام تنبثق احتمالية أدائه (عجّل الله فرجه الشريف) لفريضة الحج الواجب في أحدها.
وفي مقام الجواب عن سبب شهوده موسم الحج كلّ عام مع فرض أدئه للحج الواجب في سنة من سنوات غيبته (عجّل الله فرجه الشريف) نحتمل عدّة أقوال:
1- إنّ الحج يجب على المكلف مرّة واحدة, وإذا تكرر أداء المناسك من الحاج في مواسم اخرى فهذا أمرٌ مستحب, فيسمى حجّه مستحبًا, وبما أنّ الإمام (عجّل الله فرجه الشريف) أكمل العباد مطلقًا, وأداء المستحب من الكمال, فينبغي للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الرشيف) أن يفعل المستحب, فيحجّ الحج المستحب, ويشهد الموسم كلّ عام.
2- لا ينكر عاقل أنّ الإنسان إذا عاش بين الناس ومنهم ظالمي حقه, ويتمكن من أخذ حقه منهم, إلاّ أنّه يقف مكتوف الأيدي؛ إيمانًا بالمشيئة الإلهية التي لم تشأ بعد بإعلان ظهوره هو أمرٌ صعبٌ للغاية, يحتاج إلى صبرٍ خاص, فوجد الله تعالى وليّه (عجّل الله فرجه الشريف) صابرًا على الغيبة, فمنحه كرامة الحضور في كلّ موسمٍ من مواسم الحج, التي تخفف على العبد البلايا والرزايا, وتجعل العبد يعيش حالة التسليم المطلق لما جرى عليه وما يجري وما سيجري.
3. على أن من الثابت استحباب تكرار الحج ما استطاع اليه المكلف سبيلا
___________________
(1) عقائد الامامية: للشيخ محمد رضا المظفر, ص85.
(2) آل عمران: 97.
(3) من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق, ج2, باب تسويف الحج, ح 2935.
(4) ظ: حديث السلسلة الذهبية.
(5) مصدر سابق, ص85.
(6) كمال الدين: للشيخ الصدوق, ج2, ص440, ح8.
الغيبة: للشيخ للطوسي, ص221.
(7) المصدر السابق, ج1, ص28.
(8) المصدر السابق, ج2, ص440, ح7.
(9) مناسك الحج وملحقاتها: للسيد السيستاني, ف1, شرائط وجوب حجة الإسلام.
(10) إثبات الهداة: للحر العاملي, ج3, ص570, ب32, ف44, ح686.
(11) معجم البلدان: لياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي,ج3, ص51.
(12) مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام.
(13) مجمع البحرين: للشيخ فخرالدين الطريحي, ج3, ص97.
(14) تفسير القمّي: لعلي بن إبراهيم القمي, ج 1, ص 336.
(15) كمال الدين: للشيخ الصدوق, ص440, ح9.
(16) المصدر نفسه, ح10.
اللّهمَّ إني أسألك أن تُريني وليَّ أمرك ظاهراً نافذاً لأمرك مع علمي بأنَّ لك السلطان والقدرة والبرهان والحجَّة والمشيئة والارادة والحول والقوة.
اخترنا لكم
نُدبة
يخمصني الانتظار، يحدوني لقاحل التّهيام، يُرقّعُ مُلاءة صبري ويُرتِّقُه! يحشو جوانحي شهقاتٌ وتنعاب! أرومُ مساقط الشّموس فأرومةَ السِّدر والعلقمي؛ أحرثُ ملامح الرّوايات و أرُشُّها بالدّموع المالحة، أسقيها النُّدبة جُمعةً جُمعة أُعزّي النّفس بعطر النّرجس… يا ثاويًا رضوى، رمّم عُطوب لواعجي... خلّصني من تمخّضات الغَربلة، من تِيه التّأويل، حقد إخوة يوسف، صخور قابيل، ادّعاءات الشّغف و زُور الأقاويل... تعبتُ والدُّنيا تغمس رأسي بوحل الهَجر ثم تطلب نحري كسالومي*! يُبهظُني غيابي، يجُزُّني تقصيري وقد جُزنا ألفاً ومائةً وستاً وثمانين زفرةً وما تنسّمنا يوماً رؤياكَ وأنتَ الأقرب! * سالومي ابنة هيروديا زوجة أخ هيرودوس...... المعروفة قصة عِدائها للنّبي يحيى على نبيّنا وآله وعليه السلام، تِلكَ التّي طلبت ان يُهدى إليها رأسه على طبقٍ من الفضة....
اخرىلآلئ من نهج البلاغة
بقلم: يا مهدي أدركني الحكمة الثالثة/ الفصل الثالث قوله (صلوات الله وسلامه عليه) "وَالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ" الفقر كالشجرة التي لها جذور وساق وفروع وأغصان، فمنه ما كلما ازداد عند الإنسان، ازداد قوةً وتثبيتًا لها كالجذور، ومنها ما هو ضعيفٌ يتجمل بأوراقٍ تكسوه في أيام عزِّه ومن ثم تتخلى عنه في أيام الشدَّة، فتعصف بها الرياح وتتساقط عنه شيئًا فشيئًا كالأغصان. وقد قالوا في الفقر الكثير، ففيه المذموم وفيه الممدوح... الفقر في اللغة: هو العوز والاحتياج، وجاء في تعريفه في كتاب جامع السعادات [الفقر: ضد الغنى وهو فقد ما يحتاج إليه] (1). المفهوم العام للفقر يتمثل في الاحتياج، والاحتياج يصدق عندما تكون فاقدًا للشيء، فلا يُقال الفقر على شيءٍ تفقده ولكنك لستَ بحاجته. إنَّ الموجودات تنقسم إلى مادية ومعنوية، فيكون الفقر منقسمًا أيضًا إلى فقر معنوي وفقر مادي. أما الفقر المعنوي فهو الافتقار إلى الأمور غير المحسوسة، كالجهل فهو افتقار للعلم، والخوف افتقار للاطمئنان، والتردد افتقار للثقة في النفس، وما إلى ذلك من أمور يسبب الافتقار إليها إمراضًا روحية تؤدي إلى هلاك المجتمع، وقد تكون هناك أسبابٌ عديدة لهذا النوع من الفقر، منها تربوية واجتماعية. وأما النوع الآخر وهو الفقر المادي، فهو الاحتياج إلى كلِّ ما هو محسوس، ولا ينحصرُ بالمال فقط، وهذا النوع من الفقر يترك آثارًا كثيرة على مستوى الفرد والمجتمع، وسيأتي تفصيلُها لاحقًا إن شاء الله (تعالى). وهناك تقسيمٌ آخر بلحاظ الجهة التي يفتقر إليها الإنسان، وهذا النوع يعتمدُ على المعنى المحض للفقر وهو الاحتياج المطلق، فإذا أخذنا النظرة الفلسفية لحقيقة الإنسان سنجده ذلك الموجود المحتاج لعلته حدوثًا واستمرارًا، فهو كالمصباح الذي يحتاجُ إلى الكهرباء ليكونَ مصدرًا للنور حدوثًا واستمرارًا، فما إنْ ينقطعُ عنه ذلك التيار حتى يُصبحَ ظلامًا، فهو غيرُ قادرٍ على أنْ يفيضَ النور من ذاته، وهكذا هي حقيقة الإنسان فهو موجودٌ حادثٌ مسبوقٌ بالعدم، محتاجٌ إلى علَّته في أصل وجوده واستمراره، ولا بُدَّ أنْ تكونَ علتّه غنيةً مستقلةً قديمةً غير مسبوقةٍ بالعدم، وجودها من ذاتها، وإلا لأصبحت مثله في الاحتياج والفقر. وعليه يكون الإنسان هو الموجود المُحتاج الفقير في كل أحواله إلى ذلك الوجود الغني المُتكامل غير المتناهي، وهذا النوعُ من الفقر هو فقرٌ ممدوح، فيه رِفعةٌ للإنسان لا مذلة وإهانة؛ لذا نجدُ الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) يتفاخرون به ويجعلونه شعارًا لهم، فقد ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وعلى آله) "الفقر شعاري"(2)، وقد ورد في المأثور من أدعيتهم (صلواتُ الله وسلامه عليهم) عبارة "ربي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين"، ومدلولُ هذه العبارة هو علمهم الحقيقي بأنَّهم موجوداتٌ فقيرة لا يُمكن لها تدبير أمورها من غير المُدبِّر الحقيقي وهو الله (تعالى)، فإنَّها من دون ذلك المُدبر ستكون عدماً، وعليه فإنَّ افتقار الإنسان من جهة الغني المعبود هو افتقارٌ حسن. من الناحية الأخلاقية، فقد حثَّ أهلُ البيت (صلواتُ الله وسلامه عليهم) على وجوب عدم التخلّي عن هذا النوع من الفقر، وإلا سيقع الفرد في شباك الاستكبار والاستعلاء على الناس، فيقع في وهم عملقة نفسه التي هي في الحقيقة أضعف من أنْ تقاومَ حتى ميكروبًا صغيرًا لا يُرى بالعين المُجردة. أما النوع الثاني لهذا التقسيم وهو الافتقار إلى الجهة الأخرى المتمثلة بالناس فهو مذمومٌ؛ لأنه افتقارٌ إلى ما هو فقيرٌ في حقيقته، وإنْ كان ذا مال وقوة وسلطة ولكنه في حقيقته أيضًا مفتقر للغني المُطلق، وهذا النوع يوجبُ المذلة والمهانة والاحتقار، ويكرهه العاقل ولا يرغبُ فيه وله آثار سلبية عديدة على مستوى الفرد والمجتمع، منها أمراضٌ روحية وقلبية كالحسد والحقد، مما تؤدي إلى تحويل ذلك الشخص إلى مصدر للطاقة السلبية التي تُحرِق نفسها أولًا، وما يُحيط بها ثانيًا، وقد تتطور لتصل إلى السرقة والرشوة والربا بل وحتى إلى القتل. إذا تبين هذا نقول: في محل كلامنا في هذه الحكمة، أراد أنْ يُشير إليه أمير المؤمنين (صلواتُ الله وسلامه عليه) إلى رؤية المجتمع وتعامله مع الفقير، وهذه الرؤية متفاوتةٌ تبعًا لطبيعة المجتمعات واختلاف درجاتهم الثقافية والدينية، ولبيان ذلك نُسلِّط الضوء على أهم تلك الأنواع من المجتمعات: الأول: مُجتمع مُتدين ومُتحضر ومُتقدم ثقافيًا. وهذا النوع من أفضل أنواع المجتمعات تعاملًا مع الفقير -إن وجد- وقد يكون هذا النوع من المجتمع هو النوع الذي يحلُمُ به عموم البشر بالخصوص الفئة الفقيرة منه، فهم يسعون إلى أنْ يأخذوا بيد الفقير ويرتقوا به ويفتحوا له أبواب وفرص العمل داعمين له نفسيًا واقتصاديًا، وقلّما تجدُ تفاوتًا طبقيًا شاسعًا في مثل هذه المجتمعات، وهذا النوع كان من أحد أهداف شريعة السماء بمُختلف أطياف دياناتِها، وبالخصوص الدولة الإسلامية، لذا اهتمت كثيرًا بنظام التكافل الاجتماعي المتمثلة ببيت المال، وجاءت الشريعة بقوانين إلزامية كالخمس والزكاة وأخرى حثت عليها ليس بنحو الإلزام وإنَّما من باب الاستحباب كالصدقة، وكلُّ ذلك من أجل أنْ تذوبَ تلك المشكلة وتتلاشى... ولكن لعدم تطبيقها بالشكل الصحيح وعدم الالتزام بتلك الشريعة لم يتحقق هذا الهدف وبقي كنجمةٍ يتأملها الفقير في سواد ليل احتياجه وافتقاره في سماء أمل دولة المهدي المنتظر (صلواتُ الله وسلامه عليه). وهنا قد يرد إشكالٌ، وهو: لماذا لم يطبقِ الأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) ذلك النظام؟ والجواب: إَّن عدم تطبيق النظام ليس بسبب نقصٍ في حضرة المعصوم، وإنَّما السبب في المجتمع الكائن آنذاك وعدم التزامهم وكثرة تمرُّدِهم وعصيانهم للمعصوم مما أدى إلى تفشي الفقر والتفاوت الطبقي الشاسع، هذا بالإضافة إلى وجود فئةٍ كبيرةٍ جدًا من الظالمين كانوا يُشكِّلون مانعًا دون تحقيق أهداف المعصومين (صلواتُ الله وسلامه عليهم)، وخيرُ مثالٍ على ذلك اغتصابهم أرض فدك من الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها)، حيثُ منعوا وارداتٍ عظيمةً كانت تمثل نميرًا يسقي قلوب الفقراء والمحتاجين. الثاني: مُجتمع مُتحضر ومُتقدم ثقافيًا. وهذا النوع من المجتمع هو متحققٌ على أرض الواقع ومن المُمكن جدًا الاطلاع على بعض دول الغرب لنجدَ كيف استطاعوا أنْ ينتزعوا البعض من قوانين الحقوق التي سنَّتها الشريعة الإسلامية ليضعوها في إطار منظمات دولية تطبقها بقالبٍ آخر وتحت مُسمياتٍ جديدة، فحاولوا أن يتخلصوا من تلك القيود التي تفسخ المجتمع وتقعد به عن التقدم. الثالث: مُجتمع مُتأخر ثقافيًا ودينيًا. وهذا النوع هو محلُّ كلامِنا وسنحاولُ أنْ نبين رؤية هذا النوع من المجتمع للفقير وكيفية تعامله معه وأسباب ذلك وعلاجه. -رؤية وتعامل هذا النوع من المجتمع للفقير إنَّ مثل هذه المجتمعات تنظر إلى الفقير بنظرةٍ متدنيةٍ، فالغني ينظر إليه على أنَّه أقل منه، فلا يسمح له مثلاً بمخالطته ولا بتزويجه، بل ينظر إلى الفقير كأنَّه عيبٌ اجتماعي، فلا يأخذ حتى بكلامه ورأيه، بل في الحقيقة هو ليس مسموحًا له بالتعبير عن آرائه، وإذا دخل المجلس يكون غير مُرحبٍ به حتى لو كان رجلًا كبيرًا في السن، وبالمُقابل ونتيجةً لذلك تجدُ أنَّ الفقير سيتولد في داخله شعور يجعله ينسحب من تلك المجتمعات بهدوء فينعزل ويفضل عدم الاختلاط؛ وذلك لأنَّ لكلِّ فعلٍ ردة فعل، ونتيجة لذلك نجد هناك الكثير من الطاقات العظيمة الهائلة تُدفنُ تحت رمال الفقر والعوز بيدِ الجهلة، وبالتالي سينتج من ذلك مجتمع متخلف ثقافيًا، فيه الكثير من العاهات والأمراض الاجتماعية والتي قد يتولد البعض منها كردة فعلٍ من الفقراء أنفسِهم، حيث تنمو بكتريا الحقد والحسد في قلوبهم مما تؤدي إلى دمار المجتمع. أسبابها: 1- الجهل، وهذا الأمر واضح جدًا فإنَّ الجهلَ يُشكل حاجبًا يمنع من الرؤية السليمة مما يؤدي إلى الحكم المغلوط عادةً والتعامل غير السوي مع الآخرين. 2- الابتعاد عن الدين، وهذا الأمر له في الحقيقة تأثيران: أولي وثانوي، أما الأولي فيُسبب نمو تلك الفئة من الفقراء وانتشارها واشتداد حالتها نتيجة لعدم الالتزام بالواجبات الإسلامية من إعطاء الحقوق الواجبة والمستحبة، وأما الثانوي منها فهو التعامل الطبقي الذي حاول الإسلام أنْ يقتلعه من جذوره وأنْ يضعَ قاعدة كلية وفقها يتم التعامل، وميزانها هو التقوى كما جاء في قوله تعالى: "يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[الحجرات:13]. علاجُها: امتثالًا لقول الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه وآله) : "إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي؛ أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"، نحملُ معنا أدوات البحث ونتوجه إلى حيث النجاة من كل ضلالة والخلاص من كل جهالة والعلاج من كل آفة منبع العلم القرآن الكريم وكأسه أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم). الفقرُ في القرآن الكريم. عالج القرآن الكريم مسألة الفقر من كل جوانبه ونواحيه ونحن هنا سنتناول جانبًا واحدًا منها وهو المختص بشذرة هذه الرواية، وهي رؤية المجتمع للفقير وكيف وضع أسس التعامل معه. فقد جاء في قوله تعالى: "وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ" [النور: 32] في هذه الآية أمر من الله (تعالى) بالتزويج، فهو (تعالى) يأمر بتزويج الأيامى (والمراد من الأيّم: الذكر الذي لا أنثى معه أو الأنثى التي لا ذكر معها) الصالحين. وفي ذيل الآية وعدٌ منه (تعالى) بأنَّه سيُغني الفقراء فلا تخشوا فقرهم وزوِّجوهم فإن خزائن الله (تعالى) واسعة، وفي هذا دلالة على حثٍّ منه جلَّ وعلا على أنْ يجعلوا من المجتمع نسيجًا متينًا من مُختلف الفئات والدرجات تتمازج فيه الطبقات وتتقبلها جميع الأطراف وبذلك يُذّوِّب تلك الفكرة ويمحوها. الفقرُ في روايات أهل البيت (صلواتُ الله وسلامه عليهم) في حقولِ روايات أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) نجدُ للفقر أنواعًا كثيرة وألوانًا، منها: 1- عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "خيرُ هذه الأمة فقراؤها، وأسرعها تصعدًا في الجنة ضعفاؤها" (3). 2- وقال (صلى الله عليه وآله): "تُحفة المؤمن في الدنيا الفقر" (4). 3- عن أبي عبد الله الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) أنَّه قال: "المصائبُ منحٌ من الله، والفقرُ مخزونٌ عند الله" (5). 4- عن الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) أنَّه قال: "الفقرُ شينٌ عند الناس وزينٌ عند الله يوم القيامة" (6). في هذه الروايات نجد أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) سلّطوا الضوء على الفقر وأظهروا الجانب الإيجابي منه، بحيث لو تمعَّن القارئ فيها لتمنى أنْ يناله ذلك الفقر لما فيه من ثوابٍ عظيم ومنزلةٍ رفيعة عند الله (تعالى)، وكيف هي نظرة الله تعالى لهؤلاء الفقراء وكيف تعامل معهم أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) وعليه فحري بنا أنْ نتبعَ خطاهم ونحذو حذوهم. وهنا سؤال: هل إنَّ الفقر هو علة تامة لإخراس الفطن؟ وهل هي قاعدةٌ كُلية لا يُمكن مخالفتها؟ في مقام الجواب نقول: إنَّ الفقر لا يُمثِّل علةً تامةً لذلك، وإنّما هو جزءٌ من العلة، فإنْ توفرت بقية الأسباب ووُجِدَ المُقتضي تحقق المعلول، ولبيان ذلك نأتي بمثالِ إحراق النار للورقة، فإن النارَ هي علّة الإحراق ولكن إذا توفرت بقيةِ الأسباب من ملامسة الورقة للنار وكونها جافة غير رطبة، حينئذٍ يتحقق الإحراق وإلا فإنَّ وجود النار وحده لا يكفي في تحقق الإحراق. وعليه فإن الفقير الفَطِن (وهو الذكيّ المُلتفت غير الغافل) يُسكِته فقره في بعض الأحيان والفقر هنا قد يكون ماديًا أو علميًا بمعنى أنَّ الطالب قد يسكت عن الكلام في حضرة مُعلِّمه تأدبًا واحترامًا. وقد يسكت الفطِن لأنَّه يعلمُ بنظرة المجتمع إليه فهو بهذا يحفظُ كرامته ويترفع عنهم بصبره عليهم ورضاه بما ابتلاه الله (تعالى) لينال بذلك رضا الرحمن. وأما إذا وجد في نفسه الضرورة للتكلم فقد يتكلمُ رغم فقره؛ لعدم توفر الأسبابِ الأخرى لصمته، أو لوجود مقتضٍ لكلامه في تبيين حقيقة أو دفع شبهة وما إلى ذلك من أسباب. إشارة: قد تكون في هذه الحكمة من أمير البلاغة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) إشارة وإنارة وموعظة لكلِّ من أراد أنْ يتلبس بلباس الفقر؛ لما فيه من آثارٍ سلبيةٍ وخيمة على صاحبه من عدم الأخذ برأيه وعدم احترامه مما يضطرَّه إلى الالتزام بالصمت، فتكون رادعًا له عن ذلك. ومعنى التلبس بلباس الفقر هو شره النفس ونقصان القناعة لدرجة أنْ يبلغَ معها الغني درجة الفقر رغم غناه، أو قد يكون سببه البخل كما تقدم في بداية هذه الحكمة. _______________ 1- جامع السعادات للشيخ النراقي/ج2/ص79. 2- أنوار الحكم ومحاسن الكلم/ج1/ص92. 3- أنوار الحكم ومحاسن الكلم: ج1/ص97. 4- أنوار الحكم ومحاسن الكلم: ج1/ ص98. 5- أنوار الحكم ومحاسن الكلم:ج1/ ص100. 6- أنوار الحكم ومحاسن الكلم: ج1/ ص101.
اخرىالسعادة
السعادة: ما معنى السعادة؟ وكيف الوصول إليها؟ ولماذا نجد أن الجميع يبحث عنها وكأنها شيء مفقود؟ إسئلة لطالما وردت على ذهني وحدّثتني نفسي بها، وسعيت كثيراً لإجد إجابة لها، وفي الحقيقة ليست من إجلي بل لأقدمها هدية لكل من يفقدها. وبعد أن أبحرت في طياتها ونشرت أشرعة ملهوفة لإيجادها وجدت سرّها أو لنقل مفاتيحها في قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة النحل: آية97]. نجد في هذه الآية الكريمة وعداً من الله تعالى إلى عباده المؤمنين بالحياة الطيبة في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة فيما إذا عملوا عملاً صالحاً، وإذا بحثنا في التفاسير لوجدنا أن المفسرين قد ذهبوا إلى معانٍ متعددة في تفسير (الحياة الطيبة)، ومنها ما ورد في تفسير العلامة الطباطبائي (رحمه الله) نقلاً منه عن أحد أوجه تفسير هذه الآية لبعض المفسرين أنه قال: (أنها الحياة الدنيوية المقارنة للقناعة والرضا بما قسم الله سبحانه فإنها أطيب الحياة) (1). فلو تدبرنا قليلاً في هذه الآية الكريمة لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى قد بيَّن لنا كيف نحصل على السعادة، وما هو المعنى الحقيقي للسعادة وذلك من أجل ان لا نتيه في متاهات هذه الحياة ومكائدها التي قد يتوهم البعض أن ملذاتها المحرمة هي أبواب السعادة لينالوا من الإسلام بدعواهم أن كل من ينتمي إلى هذا الدين سيكون محروماً من التمتع في هذه الدنيا ويحرم من تذوق طعم السعادة التي هي في الحقيقة هم أحوج إليها، في حين ان الله عز وجل لم يحرم عباده من التمتع بلذائذ الدنيا المحللة فقال (عز من قائل) (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [سورة الأعراف:آية32]. فالطريق لتحصيل السعادة يكون من خلال العمل الصالح، ولو بحثنا قليلاً في كلمات أمير البلاغة والفصاحة الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه في رواية عنه نأخذ الشاهد منها حيث يقول: (إنّ الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته، فربّما وافق رضاه وأنت لا تعلم...) (2). وهذا يعني أن العمل الصالح (وهو عبارة عن طاعة الله جل وعلا) المؤدي إلى تحصيل السعادة قد يكون بصلة رحم أو قضاء حاجة مؤمن أو بر الوالدين أو... ما إلى ذلك من أعمال قد نستصغرها ولكنها عظيمة عند الله عز وجل، وبهذه الطريقة جعل الله تعالى الأعمال الصالحة ذات مصاديق متعددة لم تنحصر بمفهوم ضيق وذلك لكي يتيح للمؤمن سبلاً عديدة لارتقاء سُلّم التكامل الروحي الذي به تتخلّص النفس من ما يصيبها من أمراض معنوية تؤدي إلى الإكتئاب الذي لا يمكن معالجته بأمور مادية مهما كانت متطورة ومعقدة. فإذا اتبع المؤمن هذا الطريق فمن ما لا شك فيه أنه سيصل إلى مبتغاه من السعادة التي تتمثل بالرضا والقناعة التي ستحل في قلبه نتيجة لعمله وهذا وعد إلهي لا يمكن الشك فيه أبداً، قال تعالى في كتابه الكريم (جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [سورة البينة:آية8]. فالرضا الذي يحقق السعادة لا يمكن الوصول إليه إلا بعد أن تتكامل النفس بالعمل الصالح لتحضى برضا الله عز وجل ومن ثم يحل في هذا القلب القناعة والرضا بما كتب الله لها، وفي رواية أنه (قال حبر من بني إسرائيل: يارب كم أعصيك وأنت تمهلني ما عذبتني! فأوحى الله إلى نبي بني إسرائيل أن قل لذاك الحبر: لقد عاقبته بعقوبة لا يوجد أثقل منها, ولكنه لا يدري, أما سلبته حلاوة مناجاتي ولذة طاعتي). إذاً فالسعادة ليست بالأمر المستحيل بل هي ممكنة الحصول، فهي متاحة للجميع فقط يجب أن نختار السبل الصحيحة للوصول إليها، فهي غير منحصرة بالمال والجمال والبيوت المشيدة والسقف المزخرفة فكم وكم من غني كئيب حزين وكم من فقير مرتاح سعيد. _______________________________ 1- الميزان في تفسير القرآن للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي/ج12/ض343 2-الخصال - الشيخ الصدوق - ص 209 – 210، وتمام الحديث: إن الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرنّ شيئاً من طاعته، فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرنّ شيئاً من معصيته، فربما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم. وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرنّ شيئاً من دعائه، فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم. وأخفى وليه في عباده، فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربما يكون وليه وأنت لا تعلم.
اخرىالتعليقات
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى