تشغيل الوضع الليلي
رب ارجعون
منذ 6 سنوات عدد المشاهدات : 2194
كلمتان وردتا في القرآن الكريم لبيان حال الانسان عندما يأتيه الموت إذ يقول الباري (جل وعلا) : " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) " (1) والهدف من طلب الرجوع هو ليعمل الصالح من الأعمال ...
كلمتان تختصران الكثير من المعاني وتختزلان الكثير من المشاعر، الخوف والهلع من الموت والقلق لما هو قادم عليه في ذلك العالم ، ممزوجاً بالندم والحسرة على العمر الذي ضيعه هباءً منثوراً وعلى المال الذي شقي في جمعه ولم يستثمرهما في إثقال كفة حسناته ...
وقد يكون الكثير منا مر في حالة خوف من أمر أهون من الموت بآلاف المرات بل قد لا يكون بينهما أي وجه مقارنة، أو مر بحالة ندم على أمر هو لا يمثل الواحد بالمليار بالنسبة إلى أمر عظيم كخسران العمر وضياعه ومع ذلك فقد كان الشعور بالخوف عظيماً وبالندم مراً لا يطاق، فكيف بالشعور الذي سيشعر به كل منّا عند الموت ونحن بين فكي الموت تفترسنا أنياب المنايا وتغرس مخالبها فينا آلام الموت وعذابات نزع الروح؟! أم كيف سنشعر وقد سُجّينا في ملحودتنا وقد أحاطنا التراب من كل جانب وإبتلعتنا وحشة الظلمة وقد تنقّل الدود على وجوهنا؟
هل الموقف مخيف؟ وهل لنا فرصة في تدارك ما فاتنا لوْ حلَّ فينا الموت وأصبحنا من ضيوف دكة المغتسل وأمسينا ليلتنا الأولى في منزلنا الذي لم يؤثث إلا بأعمالنا ولم يُكيّف إلا باعتقاداتنا؟
لا شك أنك توافقني عزيزي القاريء أن لا فرصة يمكن أن نحصل عليها حينئذٍ فقد أجاب (تعالى) طلب من جاءه الموت ممن سبقنا بالرفض إذ قال: " كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ " ... فلِمَ لا نتخيل أننا قد صرنا الى ما صار اليه من جاءه الموت وطلب من الله (تعالى) الرجعة الى الحياة ولنفرض أن الله أجاب طلبنا وها نحن اللحظة عدنا الى الحياة ... ترانا ماذا سنصنع؟
هل نعود إلى ما كنا عليه من تأخير الصلاة؟ واستماع الغيبة والأغاني؟ والنظر إلى ما حرم الله؟ والتقصير في حق الوالدين والأرحام؟ أم كنّا سنتغير إلى الأفضل؟
ها هي ذي الفرصة بين أيدينا والفطن من يعرف كيف تقتنص الفرص وتستثمر ...
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المؤمنون 99و100
اخترنا لكم
تجلياتٌ معرفيةٌ في الخطاب المهدوي (16)
بقلم: علوية الحسيني "واحجبني عن أعين الباغضين النّاصبين العداوة لأهل بيتِ نبيّك ولا يصل منهم إليّ أحد بسوء" سبق وأنْ دعا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) بأولِ فقرةٍ من فقرات دعائه بالاحتجاب عن عيون أعدائه؛ حيث قال: "اللّهمّ احجبني عن عيون أعدائي". فلعلّ الإمام بدايةً أجمل, ثمّ فصّل, فعدّد مصاديق أعدائه. وهذا نظيرُ إجمالِ الله (تعالى) بدايةً في بيانِ قضية فلاح المؤمنين, ثم تفصيله وإعطائه صفاتهم(1). وطلبُه (عجّل الله فرجه) الاحتجاب من سوء الباغضين, الناصبين العداء له ولأهل البيت (عليهم السلام) طلبٌ واقعي, وليس وجدانيًا فقط, بل هو أعم كما سيأتي البرهان على ذلك. *قوله: "احجبني" هو طلبٌ للاحتجاب, من الفِعل "حجَبَ: الحجاب: الستر. حجبَ الشيء, يحجبه حُجبا وحِجابا, وحجبه: ستره. وقد احتجب وتحجب إذا اكتنّ من وراء حجاب"(2). *وقوله: "الباغضين" جمع باغض, وهو فاعل البغض "نقيض الحب"(3). *وقوله: "الناصبين العداوة لأهل بيت نبيّك"، النصب معناه نصبُ الحرب نتيجة العداء, يقال: "أنصبت لفلانٍ نصباً، إذا عاديته وناصبته الحرب مناصبةً"(4). فكل مَن ينصب العداء لمحمدٍ وآل محمد (عليهم السلام), فهو ناصبي. وظاهرًا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) يدعو بدفعِ السوء الصادر منهم بكافةِ أقسامه. وقد أردف الإمام صفة الناصبين بعد الباغضين, ولعله بلحاظ النظر إلى وحدةِ هدف الطائفتين، نعم, قد تختلفان في الدّين, بل والمذهب, لكنهما تشتركان في بطلان المنهج بطلانًا محضًا, وما يترتب عليه كالإساءة إلى من يخالفهما؛ بدليل اختلاف دعوتيهما عن دعوة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), الحق المحض. •ومن مصاديق تلك الفئات: 1/ اليهود تُعدُّ اليـهود إحدى الفئات المبغضة للإمام المهدي ( عجّل الله فرجه الشريف), ولا يخفى خبث المشاريع الماسونية التي تحاول خداع الناس بكون (الدّجال) هو المنقذ العالمي الموعود, ولو باستعمال الأكاذيب قبل زمان خروجه للناس, وبالخدع البصرية حين ظهوره. 2/ النصارى إنّ عداء النصارى للإسلام عمومًا, ولآخر إمام حقٍ خصوصًا, ليس كعداء اليهود, فهناك مشتركات بين المسلمين والنصارى, ومنها نزول النبي عيسى (عليه السلام) من السماء؛ لينشر العدل, لكن بعض القساوسة والرهبان حرّفوا بالإنجيل؛ ليجعلوا نصوصه تتلاءم مع مصالحهم الشخصية, وأهوائهم؛ لأغراضٍ شتى, منها سياسية. فمن الطبيعي من يتعصّب لدينه, دون البحث عن الحق, فإنّه يُسيء لكلِّ من يُخالفه في المعتقد, فكيف لا يُسيء إلى قائد الدعوة العالمية الإسلامية؟! 3/ النواصب وهي طائفةٌ تدّعي الإسلام, بل وتزعم أنّها على حق, تكفّر ثلاثة أثلاث المذاهب الإسلامية –فضلًا عن الأديان-, منهجها السيف والبطش, منها منبع السفياني وأسلافه, ومعروف نهجهم ضد العلويين سابقًا, فلا عجب من استمراره حتى مع قائم آل محمد (عجّل الله فرجه الشريف). والسوء الذي يريد أنْ يصيب السفياني به الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) ليس بقليل؛ لما قد يُعيث بالأرض فسادًا وظلمًا. 4/ المسلمون غير الشيعة الإمامية فالسوء الذي يصيب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) من هذه الفئة, هو تأثرها بموروثها البعيد عن منهج أهل البيت (عليهم السلام), وعدم إقرارها بحصر أحقية أهل البيت (عليهم السلام) بالخلافة بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله). نعم, هؤلاء يؤمنون بوجود مهدي, لكنّه لم يولد بعد! وهم رغم ذلك ينكرون تراثهم الروائي, وصحاح كتبهم كبعض المبادئ التي من الممكن أنْ توصلهم إلى باحة النجاة, كالأحاديث الواردة في تراثهم بأنّ المهدي من ذرية السيدة الزهراء (عليها السلام), وأنّ اسمه اسم النبي (صلى الله عليه وآله), وأنّ عدوّه من آل أمية. لكنهم عكفوا وتعبّدوا بما يردده دهاقو علمائهم، حتى باتت طاعة ذرية الإمام الحسين –ومنهم الإمام المهدي الذي لا يعتقدون به- (عليهم السلام) ليست مفروضة, بل التشكيك بهذه العقيدة؛ نصرةً لعقيدتهم. على حين نجد بعضهم يكنُّ السلام والاحترام لجميع الأئمة, لكنه لا يقرّ بإمامتهم. ولهذا تذكر الروايات أنّ أقوامًا تُحاجّ الإمام عند ظهوره الأكبر بين الركنِ والمقام, فيقول: "ألاَ وَمَنْ حَاجَّنِي فِي كِتَابِ اللهِ فَأنَا أوْلَى النَّاس بِكِتَابِ اللهِ، ألاَ وَمَنْ حَاجَّنِي فِي سُنَّةِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وآله فَأنَا أوْلَى النَّاس بِسُنَّةِ رَسُول الله"(5). وهذا مما يسبب له أذىً؛ نتيجة عدم بحثهم عن الحق طيلة فترة غيبته, فيطلبون منه الدليل على مصداقيةِ ما يدعو إليه, ليؤمنوا به, تاركين ما كانوا يتبعون, ومكسرين قيود الاستعباد التي قيّدهم بها دهاقينهم, فيعتنقون التشيّع, ولا يبعد أنْ يكونوا من الدعاة تحت يدي الإمام, فينيرون بصيرة غير الشيعة. *وهنا سؤال: ما هو السوء الذي دعا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) أنْ لا يُصاب به؟ يمكن أنْ يقال: قد يكون السوء معنويًا أو ماديًا محسوسًا. ■فالسوء الــمعنوي يمكن أنْ يتصور بعدّة أمورٍ, منها: 1/ التشكيك بأصل فكرة المنقذ العالمي الموعود. وهذا السوء قد يكون صدوره أوضح فيما لو انبعث من غير المسلمين –فضلاً عن المسلمين-, الباغضين للإمام؛ كاليهود مثلًا, حيث يزعمون أنّ المنقذ العالمي الموعود هو الدّجال. 2/ التشكيك في ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف). وهذا قد يكون صدوره أوضح فيما لو صدر من النواصب؛ فلم ننسَ الشبهات المطروحة حول فرية السرداب, ونفي غيبته, وباللازم نفي وجوده وولادته. بل ويُحتمل صدور هذا السوء من المسلمين الذين يجحدون ما تسالم عليه المسلمون كافة. حيث أنّ المهدي في عقيدتهم لـم يولد بعد, فيشككون الشيعة الإمامية بمعتقداتهم, وهذا مما يسبب اذى معنويًا للإمام (عجّل الله فرجه الشريف)؛ لأنّ ذلك التشكيك قد ينحرف بسببه العديد من متزلزلي العقيدة، والإمام يريد أرضية معدّة لظهوره. 3/ ظهور من يدّعي المهدوية فإنّ التفاف بعض الناس السذّج حول كلِّ من يدّعي أنّه المهدي الموعود يوجب إدخال السوء على قلب الإمام (عجّل الله فرجه الشريف)؛ حزنًا منه عليهم, نتيجة خسرانهم الخسران المبين, وخشيةً عليهم من عدم تصديقهم له عند ظهوره الأكبر؛ فإنّ طبيعة الإنسان حينما ينخدع بالباطل أكثر من مرّة لا يألف الحق بعدُ إلاّ بالبرهان. فقد تكون فترة دعوتهم إلى الحق فيها مشقة على الإمام وأتباعه. 4/ ظهور من يدّعي السفارة إنّ مّن يدّعي السفارة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) لاشكَّ أنّه يريد الشهرة, وبالتالي يلتفُ الناس حوله, فيبدأ يتقوّل على لسان الإمام ما لم ينزّل الله (تعالى) به من سلطان، بل وقد يدّعي استمداد الغيب منه! وهذا من موجبات السوء للإمام, لأنّ كلًا من الداعي ومُلبي الدعوة لم يمتثل لنهي الإمام بعدم اتباع من يدّعي المشاهدة والسفارة"(6)؛ حيث قال الإمام (عجل الله فرجه) في أحد توقيعاته المباركة: "وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كاذب مفتر"(7). ■أما السوء المادّي فمن الممكن أن يُتصور بعدّة أمورٍ, منها: 1/ مهاجمة جيش السفياني للمدينة المنورة حين الظهور الأولي للإمام (عجل الله فرجه) فيها. روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "يبعث السفياني بجيش إلى المدينة فيأخذون من قدروا عليه من آل محمّد(صلى الله عليه وآله) ويقتل من بني هاشم رجالًا ونساءً، فعند ذلك يهرب المهدي والمنتصر من المدينة إلى مكّة، فيبعث في طلبهما وقد لحقا بحرم الله وأمنه"(8) . 2/ قتل النفس الزكية يمثل تهديدًا للإمام بالقتل روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ مِن المَحْتُوم"(9) . 3/ خروج الدجال روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "... يَا خَيْثَمَةُ سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَعْرِفُونَ اللهَ مَا هُوَ التَّوْحِيدُ، حَتَّى يَكُونَ خُرُوجُ الدَّجَّال"(10). بغضِّ النظر عن تشخيص الدجال، هل هو حركة, أم شخص, ففي الحالتين لا شكَّ في أنَّ هدفه يسبب سوءًا للإمام. 4/ ظهور يأجوج ومأجوج "وهم أقوام حركتهم مفسدة, يعيثون في الأرض فسادًا مطلقًا, يتزامن ظهورهم مع ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), مما يسبب له سوءاً أو أذى ماديًا؛ بتخريب قيم ومبادئ المجتمعات, وممتلكاتها, ونفوس مواطنيها. وقد أشار إليهم الله (تعالى) في كتابه الكريم في سورة الكهف, قائلاً: "{حتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يـَأْجُوجَ وَمَـأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدّا}, فحجبهم الله (تعالى) بذلك السد, إلى أنْ يشاء وينفتح, فيرجعوا ليغزوا البقاع, {حتّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}"(11). وقوله تعالى: {حتّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُون}(12), فشرُّهم واضحٌ من سياق الآيات الكريمة"(13). *تنبيهات: 1/ ليس كلُّ مخالفٍ من أبناء العامة يمسُّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) بسوء, بل حتى وإنْ كان ناصبيًا؛ لخضوع الأحداث إلى البداء, وللاعتقاد بيوم الأبدال. روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): "ثم يأتي [أي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)] الكوفة...هو ومن معه، وقد لحق به ناس كثير، والسفياني يومئذٍ بوادي الرملة حتى إذا التقوا، وهو يوم الأبدال يخرج أناسٌ كانوا مع السفياني من شيعة آل محمد (عليهم السلام)، ويخرج أناسٌ كانوا مع آل محمد (عليهم السلام) إلى السفياني، فهم من شيعته حتى يلحقوا بهم، ويخرج كلُّ ناسٍ إلى رايتهم وهو يوم الأبدال"(14). 2/ ليس كلُّ نصرانيٍ عدوًا للإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف)؛ فظاهر الروايات يشير إلى إسلام الكثير منهم؛ لسببين رئيسيين: مُحَاجَجَة الإمام إياهم بالإنجيل الصحيح, ونزول النبي عيسى (عليه السلام) من السماء, واعتناقه الإسلام, فحبًا به واتبّاعًا له لا يمسون الإمام بسوء؛ لأنّه فضلاً عن كونه حاكم البقاع, فهو قائد نبيّهم. 3/ ليس كلُّ يهوديٍ يُعادي الإمام المهدي (عجّل الله فرجه الشريف), فكثيرٌ منهم يدخل في دين الله (تعالى) طوعًا, بعد أنْ يحاجّهم الإمام بالتوراة الصحيحة غير المحرّفة. نسأل الله (تعالى) أن يدفع عن وليّه سوء الباغضين المعادين. __________________ (1) انظر سورة المؤمنون: 1-11. (2) لسان العرب: لابن منظور, ج1, ص298. (3) المصدر نفسه, ج7, ص121. (4) الصحاح: للجوهري, ج1، ص225. (5) الغيبة: للشيخ النعماني, ج1, ص228. (6) ظ: مقال دراسات استراتيجية الاعداء في حربهم ضد الامام المهدي عليهم السلام حالياً: للكاتب مجتبى السادة, مجلة الانتظار, العدد16/محرم/ 1430هـ. (7) بحار الأنوار: للعلامة المجلسي, ج52, باب من ادعى الرؤية في الغيبة الكبرى وانه يشهد ويرى, ص151, ح1. (8) معجم الملاحم والفتن: لمحمود الده سرخي, ج3, ص23. (9) الغيبة: للشيخ النعماني, ص265, ب14, ح15. (10) بحار الأنوار: ج14, ص348-349, ب24, ح10,عن تفسير فرات. (11) سورة الكهف: 93-94. (12) سورة الأنبياء: 96. (13) ظ: موجز دائرة معارف الغيبة: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام, حرف الياء, 1/488. (14) مصدر سابق. ج52, ص223, ح87. اللهم احجبه عن أعين الباغضين الناصبين له ولآله العداء, وامنعه من أنْ يمسَّه منهم السوء.
العقائدالتنمية البشرية في الفكر المحمدي
في ظل تهافت شعوب العالم حول مفاهيم التنمية البشرية في عصرنا الحاضر ومحاولة اكتساب المهارات وتطوير الذات ومراجعة الكتب والمؤلفات والدراسات وإقامة الدورات والندوات والمحاضرات الكثيرة في هذا المجال، إلا إن هذه المفاهيم والسبل لتطوير الموارد البشرية قد جاء بها رسول الإنسانية محمد (صلى الله عليه وآله) ووضح مبادئها وأسسها وعمل على إرساء قواعدها في المجتمع الجاهلي منذ مئات السنين وبأساليب بسيطة جدا تحاكي حركة الوعي في المجتمع آنذاك وإن كانت المسميات مختلفة بعض الشيء إلا إنها تصب في نفس المعنى. علم التنمية البشرية يسمى أيضا بعلم تنمية الموارد البشرية مع وجود فارق بسيط، وعلى العموم فالتسميتان واحدة لأنهما تعتمدان على التنمية بشكل أساسي فعلم التنمية البشرية عام يشمل جميع جوانب الحياة لمختلف فئات المجتمع ويعتني باﻹنسان لكونه جوهر عملية التنمية، أما علم تنمية الموارد البشرية فهو متخصص أكثر ويهتم بفئات محددة من أجل زيادة الإنتاج وتحسينه كالموظفين والمدراء وغيرهم . والاصطلاح اللغوي للتنمية البشرية فيه لبس لغوي على العامة فأصل التنمية من الفعل (تنمّى) بتشديد النون وهو من النميمة ونمّيت -بتشديد الميم- الحديث تنمية: إذا بلغته -بتشديد اللام- على جهة الإفساد ونمَيته -بفتح الميم- نمْيا -بسكون الميم-: على جهة الإصلاح(1) ولجهل العامة بألفاظ اللغة العربية الفصيحة توهموا أن المصدر (تنمية) من الفعل (نما) من الزيادة والنمو والرفعة والذي مصدره نموا ونماءً(2) وليس تنمية كما تقدم. وعلى كل حال لا يهمنا المعنى اللغوي الدقيق بقدر ما يهمنا المعنى الاصطلاحي المعاصر للتنمية البشرية وهو تحفيز وتدريب قدرات الإنسان من خلال توفير البيئة الملائمة لتنمية القدرات والخبرات والسلوكيات والطموحات لكل فرد من أفراد المجتمع من جميع جوانبه بما يضمن وعي المجتمع لإمكانياته الفردية والجماعية ورقيه حاضرا ومستقبلا. وقد عمل على ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال اعتماده على أهم مادة أساسية في دينه وهو الإنسان، فدين اﻹسلام هو دين اﻹنسانية يهدف في اﻷساس إلى صناعة الإنسان بما هو إنسان وتطوير قابلياته وقدراته وتسخير كل إمكانياته المتاحة لخدمة المجتمع -كالمجتمع الجاهلي مثلا- الذي ارتقى كثيرا بهذه الخطوات الجبارة والتي أحدثت فيه تغييرا ملحوظا في النهج والفكر والسلوك عن طريق استخدام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عدة محاور منها: تطوير الذات واستثمار القدرات والطاقات البشرية في عملية زيادة الإنتاج. فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : اشتدت حال رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسألته؟ فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. فقال الرجل: ما يعني غيري فرجع إلى امرأته فأعلمها فقالت: إن رسول الله بشر فأعلمه. فأتاه فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. حتى فعل الرجل ذلك ثلاثا ثم ذهب الرجل فاستعار معولا ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطبا ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق فأكله، ثم ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى بكرين وغلاما ثم أثرى حتى أيسر. فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي (صلى الله عليه وآله) فقال النبي (صلى الله عليه وآله) قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. (3) نلاحظ في هذا الحديث كيفية تحفيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) الرجل للتفكير واستثمار الطاقات البشرية الكامنة فيه بالاعتماد على النفس، وبالتالي زيادة الإنتاج والعطاء والانطلاق من حالة الاكتفاء الفردي إلى الاكتفاء المجتمعي العام، مغيرا بذلك النظرة العامة لمجتمع ما قبل الإسلام الذي كان مجتمعا تسوده الطبقية. فالمقدرات الاقتصادية من التجارة وغيرها كانت تدار من قبل طبقة الأثرياء والوجهاء ويعمل عليها الرقيق والعبيد لتحقيق مصالح تلك الطبقة، أما طبقة الفقراء من الرعية فقد كانت ترزح تحت نير الفقر والعوز، ولهذا كان المجتمع استهلاكيا لا يقدر قيمة العمل والانتاج ، فكانت أرزاق الطبقة الفقيرة المعدمة تأتي إما من تسخيرهم للعمل لصالح الأثرياء مع الرقيق والعبيد، أو من خلال الحروب وشن الغارات على القبائل الأخرى لأجل الحصول على الغنائم. بينما حاول الرسول (صلى الله عليه وآله) بناء مجتمع إسلامي على أسس رصينة باستثمار الطاقات البشرية وتقدير قيمة العمل والجد والاجتهاد لا بالإغارة والسرقة ولا بالقعود وبذل ماء الوجه بالسؤال والاستعطاء مهما كانت الظروف صعبة على الأفراد عليهم مواجهتها بالعمل والصبر والتقوى وفي السيرة النبوية شواهد كثيرة في هذا المجال. ومن محاور التنمية البشرية التي عمل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتعزيزها في أفراد أمته هي مسألة تهذيب الإنسان لملكاته النفسية وضبط نفسه عن الهوى. ولعل أهم ما يرمز لذلك هو (حفظ اللسان) فاللسان يوضح أول ردة فعل للإنسان من غضب أو حزن أو فرح. ولأن الكلمة في الإسلام لها وزن وقيمة وحساب، جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): يعذب اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول :أي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به سيئا من الجوارح قال: فيقال: خرجت منك كلمة بلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام وانتهك بها الفرج الحرام وعزتي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من جوارحك.(4) وعنه (صلى الله عليه وآله): (نجاة المؤمن في حفظ لسانه)(5)، وجاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أوصني فقال: احفظ لسانك فقال: يا رسول الله أوصني فقال: احفظ لسانك فقال: يا رسول الله أوصني فقال : احفظ لسانك ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.(6) وفي هذه الأحاديث تذكرة نبوية عظيمة لمن طلب النجاة في الدنيا والآخرة فهو (صلى الله عليه وآله) يؤسس بذلك إلى منهج ضبط النفس وعدم الانفلات، فالانضباطية هنا ليست سهلة على الفرد مطلقا وإنما يحتاج حفظ اللسان إلى مهارات وتدريبات مستمرة لاستحصال هذه الملكة وبالتالي تعزيز هذه القيمة لدى الفرد، وهو عينه ما يدعو إليه بعض مدربي التنمية البشرية في عملية تطوير المهارات الفردية عن طريق التحكم بالحواس والسيطرة عليها. وفيما يخص حاسة النطق (حفظ اللسان) فحفظه عن الكذب والغيبة والنميمة وكل ما هو شائن ويستحب إطلاقه في الكلمة الطيبة التي تعتبر في الإسلام صدقة والاصلاح بين الناس وغيرها والتي تقابلها في مصطلحات التنمية البشرية الحديثة فن الحوار والتفاوض والإقناع، وفي انضباط الحديث بهذه الأمور وتطوير القابليات على التحلي بها سنصل إلى ما يسمى بمعرفة الأنماط التمثيلية للبشر- وتسمى الانظمة التمثيلية أيضا وهي آلية استقبال المعلومات عن طريق الحواس الخمس ومعالجتها ومن ثم برمجتها على هيئة إما صور (نظام بصري) أو أصوات (نظام سمعي) أو مشاعر وأحاسيس(نظام حسي)- ومحاولة اعتمادنا عليها في تطوير قابلياتنا في الحوار مع الطرف الآخر بما يتناسب ونمطه التمثيلي فنحفظ بذلك ألسنتنا من الزلل والخطأ ،ولا يخفى التأثير الإيجابي لصفة حفظ اللسان بهذه الكيفية من الفهم والدقة في تحليل المعلومات قبل النطق بها على المجتمع وأفراده. وركز رسول الله (صلى الله عليه وآله) كثيرا في مسيرته التنموية لأمة الإسلام على نقطة مهمة جدا للفرد وهي مسألة (مداراة الناس) ويقصد بها في الإسلام: ملاينة الناس وحسن محبتهم واحتمال أذاهم، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله وخلق يداري به الناس وحلم يرد به جهل الجاهل.(7) وقال (صلى الله عليه وآله): من عاش مداريا مات شهيدا.(8) وعنه (صلى الله عليه وآله): مداراة الناس صدقة.(9) وقال (صلى الله عليه وآله): مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش.(10) وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حق...)(11) وقوله (صلى الله عليه وآله): (.... أعقل الناس أشدهم مداراة للناس.....).(12) وبالتأمل قليلا في كمِّ الأحاديث أعلاه عن مداراة الناس وغيرها الكثير التي حفلت بها مصادر الكتب الحديثية يتبين لنا التأكيد النبوي على أهمية هذه الصفة عند الفرد، ومن الواضح ان اكتساب هذه الصفة ليس بالأمر الهين، وكما قيل: رضا الناس غاية لا تدرك . ومن هنا يتبين أن على اﻹنسان أن يعمل على نفسه ويطور من قدراته وإمكانياته في ملاينة الناس وتحمل أذاهم. إنه لعمري من أعظم جهاد النفس خاصة في عصرنا الحالي في زمن اختلطت به الايديولوجيات وتعددت فيه اﻷفكار والتوجهات داخل المجتمع الواحد مع الأخذ بنظر الاعتبار اانفتاح الكبير على المجتمعات وتأثير العولمة في تغيير الأفكار والسلوكيات في المجتمع، وفي مداراة الناس بالإضافة إلى عظيم أجره وجزيل ثوابه الذي ذكرته الأحاديث النبوية المتقدمة. إلا إنه ينظم المجتمع من خلال تدريب الأفراد على التحلي بالذكاء الاجتماعي لخلق مجتمع متعاون متراحم وانعكاسه الإيجابي على اﻷمة من هدوء وانسجام بين الأفراد بعيدا عن الصراعات واانقسام الداخلي. إننا لا ننكر وجود الخلاف في التوجهات والأفكار داخل المجتمع الواحد ولكن بمداراة الناس فيما بينهم نستطيع احتواء هذا الخلاف كل ضمن دائرته مع احترام الرأي الآخر، فإن هذا حتما لا يؤدي الى الفرقة والتناحر والاختلاف، ومن خلال صقل مهارات الأفراد وإنجازات التنمية البشرية على ضوء السيرة النبوية نصل بأفراد المجتمع ككل إلى هذه الحالة من التنظيم الذاتي التي ستدفع بدورها عملية التنظيم المجتمعي الواعي. وبلحاظ ما تقدم نستطيع القول: بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ارتكز في عملة التنموي لأفراد اﻷمة على عدة أسس منها: 1-تمهيد الأرضية الصالحة للعمل التنموي في المجتمع من خلال نبذ الايديولوجيات والأفكار الجاهلية المقيتة البعيدة عن روح الإنسانية والفطرة وزرع الأفكار والمفاهيم الصحيحة وتثبيتها شرعا وخلقا وسلوكا وتطبيقا. 2-العمل على ركنين مهمين في تركيبة الإنسان : أ-الركن المادي : ويعمل أساسا على العقل البشري بتطوير الأفكار فيه إلى مشاريع وأعمال مادية على أرض الواقع تضمن تقدم المجتمع وازدهاره مع التأكيد على قيمة العمل وإتقانه والإنجاز في أحاديث وسلوكيات الرسول (صلى الله عليه وآله). ب-الركن المعنوي : ويعمل أساسا على إصلاح سريرة الإنسان وتهذيب صفاته النفسية وبالتالي خلق فرد متوازن نفسيا يستطيع السيطرة على حواسه وانفعالاته الداخلية ويستطيع تصحيح اخطاءه. 3- توفير بيئة مثالية للأفراد في التعايش مع اﻵخر لتحقيق اهدافهم وصناعة جيل واعي يتحمل مسؤوليته في بناء المجتمع وعلى كافة الصعد. 4- التفكير الاستراتيجي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبعاد هذه التنمية البشرية لأمة الإسلام واستمراريتها مستقبلا ما بقيت محاولات اكتساب تلك المهارات والملكات النفسية والتحلي بالفضائل قائمة في المجتمع كإيديولوجيات تنموية لها جذورها الدينية والعقائدية والفطرية والإنسانية. وكنتيجة منطقية لما سبق فان التنمية البشرية في الاسلام التي جاء بها الرسول (صلى الله عليه وآله) لو طبقت بحذافيرها والتزمت بها الأمة سنصنع أمة تعتمد على التطوير الذاتي والاجتماعي ونصنع مجتمعا منتجا لا استهلاكيا ، مجتمعاً يقدر جيدا استثمار تلك الطاقات البشرية في زراعة الوعي في الأمة وصناعة الحضارة وهو ما نحتاج إليه في هذا المقطع الزمني الذي تمر به أمة الإسلام. ____________________________ (1) المحيط في اللغة ج2 ص477 (2)راجع العين للخليل الفراهيدي ج2 ص201 (3)الكافي ج2 ص139 ح7 (4)مستدرك الوسائل ج9 ص15 (5)الكافي ج2 ص114 ح9 (6)الكافي ج2 ص115 ح14 (7)الكافي ج2 ص116 ح1 (8)روضة الواعطين ص454 (9)مشكاة الأنوار ص218 (10) الكافي ج2 ص117 ح2 بحار الأنوار ج72 ص440 (11)بحار الأنوار ج74 ص145 (12)الأربعون حديثا للعاملي الجرني ص47 عبير المنظور
اخرىالتعليقات
رضا الله غايتي
منذ 6 سنوات
وإياكم أخي شكرا لمروركم
يتصدر الان
لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع
يستشهد الكثير من الناس ــ وحتى بعض المثقفين ــ بقول:" لا تعاشر نفساً شبعت بعد جوع فإن الخير فيها دخيل وعاشر نفساً جاعت بعد شبع فإن الخير فيها أصيل" على أنه من أقوال أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، كما يستشهدون أيضاً بقولٍ آخر ينسبونه إليه (عليه السلام) لا يبعد عن الأول من حيث المعنى:"اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت لأن الخير فيها باق، ولا تطلبوا الخير من بطون جاعت ثم شبعت لأن الشح فيها باق"، مُسقطين المعنى على بعض المصاديق التي لم ترُق افعالها لهم، لاسيما أولئك الذين عاثوا بالأرض فساداً من الحكام والمسؤولين الفاسدين والمتسترين عل الفساد. ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه نشر الفساد والتستر عليه ومداهنة الفاسدين نؤكد ونشدد على ضرورة تحرّي صدق الأقوال ومطابقتها للواقع وعدم مخالفتها للعقل والشرع من جهة، وضرورة التأكد من صدورها عن أمير المؤمنين أبي الأيتام والفقراء (عليه السلام) أو غيرها من المعصومين (عليهم السلام) قبل نسبتها إليهم من جهة أخرى، لذا ارتأينا مناقشة هذا القول وما شابه معناه من حيث الدلالة أولاً، ومن حيث السند ثانياً.. فأما من حيث الدلالة فإن هذين القولين يصنفان الناس الى صنفين: صنف قد سبق له أن شبع مادياً ولم يتألم جوعاً، أو يتأوه حاجةً ومن بعد شبعه جاع وافتقر، وصنف آخر قد تقلّب ليله هماً بالدين، وتضوّر نهاره ألماً من الجوع، ثم شبع واغتنى،. كما جعل القولان الخير متأصلاً في الصنف الأول دون الثاني، وبناءً على ذلك فإن معاشرة أفراد هذا الصنف هي المعاشرة المرغوبة والمحبوبة والتي تجرّ على صاحبها الخير والسعادة والسلام، بخلاف معاشرة أفراد الصنف الثاني التي لا تُحبَّذ ولا تُطلب؛ لأنها لا تجر إلى صاحبها سوى الحزن والندم والآلام... ولو تأملنا قليلاً في معنى هذين القولين لوجدناه مغايراً لمعايير القرآن الكريم بعيداً كل البعد عن روح الشريعة الاسلامية ، وعن المنطق القويم والعقل السليم ومخالفاً أيضاً لصريح التاريخ الصحيح، بل ومخالف حتى لما نسمعه من قصص من أرض الواقع أو ما نلمسه فيه من وقائع.. فأما مناقضته للقرآن الكريم فواضحة جداً، إذ إن الله (تعالى) قد أوضح فيه وبشكلٍ جلي ملاك التفاضل بين الناس، إذ قال (عز من قائل):" يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)"(1) جاعلاً التقوى مِلاكاً للتفاضل، فمن كان أتقى كان أفضل، ومن البديهي أن تكون معاشرته كذلك، والعكس صحيحٌ أيضاً. وعليه فإن من سبق حاجتُه وفقرُه شبعَه وغناه يكون هو الأفضل، وبالتالي تكون معاشرته هي الأفضل كذلك فيما لو كان تقياً بخلاف من شبع وكان غنياً ، ثم افتقر وجاع فإنه لن يكون الأفضل ومعاشرته لن تكون كذلك طالما كان بعيداً عن التقوى. وأما بُعده عن روح الشريعة الإسلامية فإن الشريعة لطالما أكدت على أن الله (سبحانه وتعالى) عادلٌ لا جور في ساحته ولا ظلمَ في سجيته، وبالتالي لا يمكن أن يُعقل إطلاقاً أن يجعل البعض فقيراً ويتسبب في دخالة الخير في نفوسهم، التي يترتب عليها نفور الناس من عشرتهم، فيما يُغني سواهم ويجعل الخير متأصلاً في نفوسهم بسبب إغنائه إياهم ليس إلا ومن ثم يتسبب في كون الخير متأصلاً في نفوسهم، وبالتالي حب الناس لعشرتهم. فإن ذلك مخالف لمقتضى العدل الإلهي لأنه ليس بعاجزٍ عن تركه ولا بمُكره على فعله، ولا محب لذلك لهواً وعبثاً (تعالى عن كل ذلك علواً كبيراً). كما إن تأصل الخير في نفوس بعض الناس ودخالته في نفوس البعض الآخر منهم بناءً على أمر خارج عن إرادتهم واختيارهم كـ(الغنى والشبع أو الجوع والفقر) إنما هو أمرٌ منافٍ لمنهج الشريعة المقدسة القائم على حرية الانسان في اختياره لسبيل الخير والرشاد أو سبيل الشر والفساد، قال (تعالى):" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)"(2) بل إن الانسان أحياناً قد يكون فقيراً بسبب حب الله (تعالى) له، كما ورد في الحديث القدسي: "أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى فلو أفقرته لأفسده ذلك و أن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر فلو أغنيته لأفسده ذلك"(3) وهل يمكن ان نتصور أن الخيرَ دخيلٌ فيمن يحبه الله (تعالى) أو إن معاشرته لا تجدي نفعا، أو تسبب الهم والألم؟! نعم، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"اِحْذَرُوا صَوْلَةَ اَلْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اَللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ"(4) ولا يقصد به الجوع والشبع المتعارف عليه لدى الناس، وإنما المراد منه: احذروا صولة الكريم إذا اُمتُهِن، واحذروا صولة اللئيم إذا أكرم، وفي هذا المعنى ورد عنه (عليه السلام) أيضاً: "احذروا سطوة الكريم إذا وضع و سورة اللئيم إذا رفع"(5) وأما العقل السليم والمنطق القويم فإنهما يقتضيان أن تتأصل صفة الخير في الإنسان لملكاتٍ حميدة يتسم بها وصفات فضيلة يتميز بها، لا أن تتأصل صفة الخير في نفسه لمجرد أنه ولد في أسرة تتمتع بالرفاهية الاقتصادية ووجد في بيئة تتنعم بالثروات المادية! وعند مراجعتنا للتاريخ الصحيح نجد أن قادة البشر وصفوة الناس إنما كان أغلبهم ينتمي الى الطبقات الفقيرة من المجتمع، فهؤلاء الأنبياء ورسل الله (صلوات الله عليهم) منهم من كان نجاراً أو خياطاً أو راعياً، ومع ذلك فقد كانوا من أطيب الناس خلقاً، وأعظمهم شرفاً، وأرفعهم منزلةً، قد تأصّل الخير في نفوسهم تأصّلاً حتى غدوا قطعة منه، فكانوا هم الخير للبشر، وهم الرحمة للعالمين. وبالنزول إلى أرض الواقع نجد أن الكثير من الفقراء والمساكين طيبي الروح، كريمي النفس، يتألمون لألم المحتاج ولربما يؤثرونه على أنفسهم رغم حاجتهم. ولا نقصد من كلامنا هذا أن الأغنياء هم على نقيض ذلك، وإنما تأكيداً على مسألة عدم ارتباط تأصل الخير في النفوس وعدمه بمستواهم الاقتصادي الذي نشأوا فيه ارتباط العلة والمعلول، فكما إن بعض الفقراء أخيار، فإن بعض الأغنياء كذلك، والعكس صحيح أيضاً. ومن هنا يُفهم من بعض الروايات ضرورة عدم طلب الخير والحاجات ممن هم أهل للخير بقطع النظر عن مستواهم المعاشي الحالي والسابق، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"أشد من الموت طلب الحاجة من غير أهلها"(5)، وعنه (عليه السلام) أيضاً: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها"(6) إذن فلا صحة لهاتين المقولتين من حيث الدلالة، حتى وإن تنزلنا وحملنا الجوع والشبع على المعنى المعنوي لا المادي؛ وذلك لأنه حتى من يفتقر الى الأخلاق المعنوية فإنه ما إن يتكامل بالفضائل ويقلع عن الرذائل حتى يتسم بالخير وتحسن عشرته وتطيب للناس صحبته، والعكس صحيحٌ أيضا.. ومن البديهي أن ما لا يوافق العقل والمنطق السليم، ويخالف صريح القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر من وصي الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما)، وعليه لا تصح نسبة هذين القولين الى أمير المؤمنين (عليه السلام).. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحجرات 13 (2) الانسان 3 (3) عوالي الآلي ج2 ص29 (4) غرر الحكم ج1 227 (5) المدر السابق ج1 ص246 (6) ميزان الحكمة ج4 ص 238 رضا الله غايتي
اخرىبين طيبة القلب وحماقة السلوك...
خلق الله الأشياء كلها في الحياة ضمن موازين وقياسات... فالزيادة أو النقيصة تسبب المشاكل فيها. وهكذا حياتنا وأفعالنا وعواطفنا لا بد أن تكون ضمن موازين دقيقة، وليست خالية منها، فالزيادة والنقيصة تسبب لنا المشاكل. ومحور كلامنا عن الطيبة فما هي؟ الطيبة: هي من الصفات والأخلاق الحميدة، التي يمتاز صاحبها بنقاء الصدر والسريرة، وحُبّ الآخرين، والبعد عن إضمار الشر، أو الأحقاد والخبث، كما أنّ الطيبة تدفع الإنسان إلى أرقى معاني الإنسانية، وأكثرها شفافية؛ كالتسامح، والإخلاص، لكن رغم رُقي هذه الكلمة، إلا أنها إذا خرجت عن حدودها المعقولة ووصلت حد المبالغة فإنها ستعطي نتائج سلبية على صاحبها، كل شيء في الحياة يجب أن يكون موزوناً ومعتدلاً، بما في ذلك المحبة التي هي ناتجة عن طيبة الإنسان، وحسن خلقه، فيجب أن تتعامل مع الآخرين في حدود المعقول، وعندما تبغضهم كذلك وفق حدود المعقول، ولا يجوز المبالغة في كلا الأمرين، فهناك شعرة بين الطيبة وحماقة السلوك... هذه الشعرة هي (منطق العقل). الإنسان الذي يتحكم بعاطفته قليلاً، ويحكّم عقله فهذا ليس دليلاً على عدم طيبته... بالعكس... هذا طيب عاقل... عكس الطيب الأحمق... الذي لا يفكر بعاقبة أو نتيجة سلوكه ويندفع بشكل عاطفي أو يمنح ثقة لطرف معين غريب أو قريب... والمبررات التي يحاول إقناع نفسه بها عندما تقع المشاكل أنه صاحب قلب طيب. الطيبة لا تلغي دور العقل... إنما العكس هو الصحيح، فهي تحكيم العقل بالوقت المناسب واتخاذ القرار الحكيم الذي يدل على اتزان العقل، ومهما كان القرار ظاهراً يحمل القسوة أحياناً لكنه تترتب عليه فوائد مستقبلية حتمية... وأطيب ما يكون الإنسان عندما يدفع الضرر عن نفسه وعن الآخرين قبل أن ينفعهم. هل الطيبة تصلح في جميع الأوقات أم في أوقات محددة؟ الطيبة كأنها غطاء أثناء الشتاء يكون مرغوباً فيه، لكنه اثناء الصيف لا رغبة فيه أبداً.. لهذا يجب أن تكون الطيبة بحسب الظروف الموضوعية... فالطيبة حالة تعكس التأثر بالواقع لهذا يجب أن تكون الطيبة متغيرة حسب الظروف والأشخاص، قد يحدث أن تعمي الطيبة الزائدة صاحبها عن رؤيته لحقيقة مجرى الأمور، أو عدم رؤيته الحقيقة بأكملها، من باب حسن ظنه بالآخرين، واعتقاده أن جميع الناس مثله، لا يمتلكون إلا الصفاء والصدق والمحبة، ماي دفعهم بالمقابل إلى استغلاله، وخداعه في كثير من الأحيان، فمساعدة المحتاج الحقيقي تعتبر طيبة، لكن لو كان المدّعي للحاجة كاذباً فهو مستغل. لهذا علينا قبل أن نستخدم الطيبة أن نقدم عقولنا قبل عواطفنا، فالعاطفة تعتمد على الإحساس لكن العقل أقوى منها، لأنه ميزان يزن الأشياء رغم أن للقلب ألماً أشد من ألم العقل، فالقلب يكشف عن نفسه من خلال دقاته لكن العقل لا يكشف عن نفسه لأنه يحكم بصمت، فالطيبة يمكن أن تكون مقياساً لمعرفة الأقوى: العاطفة أو العقل، فالطيّب يكون قلبه ضعيفاً ترهقه الضربات في أي حدث، ويكون المرء حينها عاطفياً وليس طيباً، لكن صاحب العقل القوي يكون طيباً أكثر من كونه عاطفياً. هل الطيبة تؤذي صاحبها وتسبب عدم الاحترام لمشاعره؟ إن الطيبة المتوازنة المتفقة مع العقل لا تؤذي صاحبها لأن مفهوم طيبة القلب هو حب الخير للغير وعدم الإضرار بالغير، وعدم العمل ضد مصلحة الغير، ومسامحة من أخطأ بحقه بقدر معقول ومساعدة المحتاج ... وغيرها كثير. أما الثقة العمياء بالآخرين وعدم حساب نية المقابل وغيرها فهذه ليست طيبة، بل قد تكون -مع كامل الاحترام للجميع- غباءً أو حماقة وسلوكاً غير عقلاني ولا يمت للعقل بصلة. إن المشكلة تقع عند الإنسان الطيب عندما يرى أن الناس كلهم طيبون، ثم إذا واجهه موقف منهم أو لحق به أذى من ظلم أو استغلال لطيبته، تُغلق الدنيا في وجهه، فيبدأ وهو يرى الناس الطيبين قد رحلوا من مجتمعه، وأن الخير انعدم، وتحصل له أزمة نفسية أو يتعرض للأمراض، لأن الطيّب يقدم الإحسان للناس بكل ما يستطيع فعله، ويقدّم ذلك بحسن نية وبراءة منه، فهو بالتالي ينتظر منهم الرد بالشكر أو المعاملة باللطف على الأقل... صحيح أن المعروف لوجه الله، ولكن من باب: من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق، لذلك يتأذى عندما يصدر فعل من الشخص الذي كان يعامله بكل طيب وصدق. هل الطيبة والصدق من علامات ضعف الشخصية؟ الكثير من الناس يصف طيب القلب بأنه ضعيف الشخصية، لأنه يتصف بعدم الانتقام ممن ظلمه، والصفح عنه عند رجوعه عن الخطأ، وأنه لا يحب إيقاع الآخرين بالمشاكل؛ لأنه مقتنع أن الله سيأخذ له حقه. والحقيقة هي أن الصدق والطيبة وحسن الظن بالآخرين ليست ضعف شخصية، بل هي من الأخلاق الراقية وهي تزيد صاحبها سمواً وجمالاً روحياً، وليس من المعيب أن يمتلك الإنسان الطيبة بل العيب في من لا يُقدّر هذه الطيبة ويعطيها حقها في التعامل بالمثل. فالمشكلة الأساسية ليست في الطيبة، إنما في استغلال الآخرين لهذه الطيبة، نتيجة لعدم عقلنة قراراتنا والاعتماد على عواطفنا بشكل كلي. فالصدق والطيبة حسب المنطق والعقل، ولها فوائد جمة للنفس ولعموم أفراد المجتمع، فهي تحصين للشخص عن المعاصي، وزيادة لصلة الإنسان بربه، وتهذيب للنفس والشعور بالراحة النفسية، فالصادق الطيب ينشر المحبة بين الناس، وهذا يعزّز التماسك الاجتماعي وتقويته من سوء الظنون والحقد، وهذا التعامل أكّدت عليه جميع الشرائع السماوية، ولو تأمّلنا تاريخ وأخلاق الأنبياء والأوصياء لوجدنا كل ما هو راقٍ من الأخلاق والتعامل بالطيبة والصدق... حنان الزيرجاوي
اخرىلا تقاس العقول بالأعمار!
(لا تقاس العقول بالأعمار، فكم من صغير عقله بارع، وكم من كبير عقله فارغ) قولٌ تناولته وسائل التواصل الاجتماعي بكل تقّبلٍ ورضا، ولعل ما زاد في تقبلها إياه هو نسبته الى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكننا عند الرجوع إلى الكتب الحديثية لا نجد لهذا الحديث أثراً إطلاقاً، ولا غرابة في ذلك إذ إن أمير البلاغة والبيان (سلام الله وصلواته عليه) معروفٌ ببلاغته التي أخرست البلغاء، ومشهورٌ بفصاحته التي إعترف بها حتى الأعداء، ومعلومٌ كلامه إذ إنه فوق كلام المخلوقين قاطبةً خلا الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ودون كلام رب السماء. وأما من حيث دلالة هذه المقولة ومدى صحتها فلابد من تقديم مقدمات؛ وذلك لأن معنى العقل في المفهوم الإسلامي يختلف عما هو عليه في الثقافات الأخرى من جهةٍ، كما ينبغي التطرق الى النصوص الدينية الواردة في هذا المجال وعرضها ولو على نحو الإيجاز للتعرف إلى مدى موافقة هذه المقولة لها من عدمها من جهةٍ أخرى. معنى العقل: العقل لغة: المنع والحبس، وهو (مصدر عقلت البعير بالعقال أعقله عقلا، والعِقال: حبل يُثنَى به يد البعير إلى ركبتيه فيشد به)(1)، (وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه)(2)؛ لذا روي عنه (صلى الله عليه وآله): "العقل عقال من الجهل"(3). وأما اصطلاحاً: فهو حسب التصور الأرضي: عبارة عن مهارات الذهن في سلامة جهازه (الوظيفي) فحسب، في حين أن التصوّر الإسلامي يتجاوز هذا المعنى الضيّق مُضيفاً إلى تلك المهارات مهارة أخرى وهي المهارة العبادية. وعليه فإن العقل يتقوّم في التصور الاسلامي من تظافر مهارتين معاً لا غنى لأحداهما عن الأخرى وهما (المهارة العقلية) و(المهارة العبادية). ولذا روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه عندما سئل عن العقل قال :" العمل بطاعة الله وأن العمّال بطاعة الله هم العقلاء"(4)، كما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه عندما سئل السؤال ذاته أجاب: "ما عُبد به الرحمن، واكتسب به الجنان. فسأله الراوي: فالذي كان في معاوية [أي ماهو؟] فقال(عليه السلام): تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بالعقل"(5) والعقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، فأما الأول أو ما يسمى بـ(الوجدان الأخلاقي) فهو مبدأ الادراك، وهو إن نَما وتطور سنح للإنسان فرصة الاستفادة من سائر المعارف التي يختزنها عن طريق الدراسة والتجربة وبالتالي يحقق الحياة الإنسانية الطيبة التي يصبو اليها، وأما إن وهن واندثر لإتباع صاحبه الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، فعندئذٍ لا ينتفع الانسان بعقل التجربة مهما زادت معلوماته وتضخمت بياناته، وبالتالي يُحرم من توفيق الوصول إلى الحياة المنشودة. وعقل التجربة هو ما يمكن للإنسان اكتساب العلوم والمعارف من خلاله، وما أروع تشبيه أمير البلغاء (عليه السلام) العلاقة التي تربط العقلين معاً إذ قال فيما نسب إليه: رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذ لم يك مطبــوع كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع(6) فقد شبّه (سلام الله عليه) عقل الطبع بالعين وعقل التجربة بالشمس، ومما لاشك فيه لكي تتحقق الرؤية لابد من أمرين: سلامة العين ووجود نور الشمس، وكما إن الثاني لا ينفع إن لم يتوفر الأول فكذلك عقل التجربة لا ينفع عند غياب عقل الطبع فضلاً عن موته. وبما إن عقل الطبع قد ينمو ويزدهر فينفع صاحبه من عقل التجربة، وقد يموت ويندثر عند الاستسلام لإضلال شبهةٍ أوبسبب إرتكاب معصية، فإنه ومن باب أولى أن يتعرض الى الزيادة والنقصان كما سيأتي... وقد ورد في النصوص الدينية أن للعقل زمناً ينمو فيه ويكتمل، فعن إمامنا أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه):"يثغر الصبي لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربع عشرة، وينتهى طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين إلا التجارب"(7)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يربى الصبي سبعاً ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، ومنتهى طوله في ثلاث وعشرين سنة، وعقله في خمس وثلاثين [سنة] وما كان بعد ذلك فبالتجارب"(8). إذن يتوقف النمو الطبيعي لعقل الانسان عند سن الثامنة والعشرين أو الخامسة والثلاثين كما ورد في الروايتين، وأية زيادة أخرى في طاقته بعد ذلك إنما تأتي عن طريق التجارب، وقد يُتوهم بأن ثمة تعارضاً ما بين الروايتين المتقدمتين في شأن تحديد سن النمو العقلي، إلا إنه لا تعارض ينهما إذا حملنا اختلافهما فيه على اختلاف الاشخاص وتباين استعدادات وقابليات كل منهم. وعلى الرغم من توقف نمو عقل الإنسان إلا إن له أنْ يزيده بالتجارب ومواصلة التعلم ــ كما تقدم في الروايات ــ وسواء أثبت العلم هذه الحقيقة الروائية أم لا، فنحن نريد الإشارة إلى ضرورة استمرار التجربة والتعلم لزيادة نمو العقل وهذا المقدار لا خلاف فيه وعلى الرغم من إن لعمر الانسان مدخلية في زيادة عقله كما تقدم وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "يزيد عقل الرجل بعد الاربعين إلى خمسين وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك"(9)، إلا إن ذلك ليس على نحو العلة التامة، إذ يمكن للعقل أن يبقى شاباً وقوياً وإن شاب الإنسان وضعف جسمه، وتقدم في السن ووهن عظمه، فالعاقل لا يشيب عقله ولا تنتقص الشيخوخة من قوته بل وقد يزداد طاقةً وحيويةً لذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):"رأي الشيخ أحب الي من جَلَد الغلام"(10)، وفي أخرى ".....من حيلة الشباب "(11) وأما من لم يوفر أسباب صقل عقله في مرحلة الشباب فإنه بلا شك يضمحل عقله في مرحلة الشيخوخة. وليس تقدم العمر هو العامل الوحيد في نقصان العقل بل إن النصوص الشرعية أشارت الى عوامل عديدة اخرى أهمها: أولاً: التعلم: فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً"(13). ثانياً: التوبة: وعنه (عليه السلام) ايضاً:"من لم يرتدع يجهل"(14) ثالثاً: التقوى: فقد كتب إمامنا الباقر (عليه السلام) إلى سعد الخير: "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اوصيك بتقوى الله فإن فيها السلامة من التلف والغنيمة في المنقلب إن الله (عزوجل) يقي بالتقوى عن العبد ما عزب عنه عقله ويجلي بالتقوى عنه عماه وجهله"(15) إذن التوبة هي سبب للتوفيق الإلهي الذي يؤدي فيما يؤدي إليه من إكمال العقل. رابعاً: الوقوف عند الشبهة: وقال (عليه السلام ): "لا ورع كالوقوف عند الشبهة"(16). فإن الوقوف عند الشبهات سبب من أسباب التوفيق الإلهي بلا شك. خامساً: الاعتراف بالجهل: كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "غاية العقل الاعتراف بالجهل"(17) إذ الاعتراف بالجهل يدفع الإنسان دوماً إلى مزيد من بذل الجهد واكتساب المعارف. مما تقدم تتضح جلياً صحة هذه المقولة دلالةً، إذ إن العقول فعلاً لا تقاس بالأعمار لأن كلٍاً من زيادتها ونقيصتها منوطٌ بالعديد من العوامل الأخرى والتي تقدم ذكرها، بيد إن ذلك لا يبرر التساهل في نشرها والتهاون في الاستشهاد بها على إنها من أقوال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لعدم ثبوت ذلك سنداً من جهة ولضعف بلاغتها وركاكة تركيبها بالنسبة إلى سيد البلغاء والبلاغة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تهذيب اللغة ج1 ص65 (2) لسان العرب ج11 ص458 (3) نهاية الحكمة ص305 (4) ميزان الحكمة ج3 ص333 (5) أصول الكافي ج1، ح3 / 11 (6) نهج السعادة ج9 ص163 (7) الكافي ج7 ص94 (8) الفقيه ج3 ص493 (9) الاختصاص ص245 (10) نهج البلاغة حكمة 86 (11) بحار الأنوار ج72 ص105 (12) المصدر السابق ج1 ص94 (13) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص118 (14) الكافي ج8 ص73 (15) وسائل الشيعة ج1 ص162 (16) غرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص1 بقلم الكاتبة: رضا الله غايتي
اخرىالطلاق ليس نهاية المطاف
رحلةٌ مثقلة بالألم في طريق يئن من وطأة الظلم! ينهي حياة زوجية فشلت في الوصول إلى شاطئ الأمان. ويبدد طموحات أطفال في العيش في هدوء نفسي واجتماعي تحت رعاية أبوين تجمعهم المودة والرحمة والحب. الطلاق شرعاً: هو حل رابطة الزواج لاستحالة المعاشرة بالمعروف بين الطرفين. قال تعالى: [ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)].(١). الطلاق لغوياً: من فعل طَلَق ويُقال طُلقت الزوجة "أي خرجت من عصمة الزوج وتـحررت"، يحدث الطلاق بسبب سوء تفاهم أو مشاكل متراكمة أو غياب الانسجام والحب. المرأة المطلقة ليست إنسانة فيها نقص أو خلل أخلاقي أو نفسي، بالتأكيد إنها خاضت حروباً وصرعات نفسية لا يعلم بها أحد، من أجل الحفاظ على حياتها الزوجية، ولكن لأنها طبقت شريعة الله وقررت مصير حياتها ورأت أن أساس الـحياة الزوجيـة القائم على المودة والرحـمة لا وجود له بينهما. فأصبحت موضع اتهام ومذنبة بنظر المجتمع، لذلك أصبح المـجتمع يُحكم أهواءه بدلاً من الإسلام. ترى، كم من امرأة في مجتمعنا تعاني جرّاء الحكم المطلق ذاته على أخلاقها ودينها، لا لسبب إنما لأنها قررت أن تعيش، وكم من فتاة أُجبرت قسراً على أن تتزوج من رجل لا يناسب تطلعاتها، لأن الكثير منهن يشعرن بالنقص وعدم الثقة بسبب نظرة المجتمع، وتقع المرأة المطلّقة أسيرة هذه الحالة بسبب رؤية المجتمع السلبيّة لها. وقد تلاحق بسيل من الاتهامات وتطارد بجملة من الافتراءات. وتعاني المطلقة غالباً من معاملة من حولها، وأقرب الناس لها، بالرغم من أن الطلاق هو الدواء المر الذي قد تلجأ إليه المرأة أحياناً للخلاص من الظلم الذي أصبح يؤرق حياتها الزوجية، ويهدد مستقبلها النفسي، والله تعالى لم يشرع أمراً لخلقه إلا إذا كان فيه خير عظيم لهم، والطلاق ما شرّع إلا ليكون دواء فيه شفاء وإن كان مرّاً، وإن كان أمره صعباً على النفوس، حيث قال عز وجل: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا"، روي عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (٢). ورغم أن الشريعة الإسلامية أباحت الطلاق بشروط تلاءم لبناء المجتمع، وأولت أهمية في الإحسان دائمًا للطرف الأضعف والأكثر خسارة في هذه المعادلة وهي "المرأة"، إلا أن المجتمع الذي يدّعي الإسلام لا يرحمها، ويحكم عليها بالإدانة طوال حياتها دون النظر في صحة موقفها في الطلاق من عدمه! قال( تعالى ): [الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (٣). ولكن بعد كل هذا فالحياة لم ولن تتوقف بعد الطلاق! الطلاق ليس نهاية الحياة. - أخيتي. ليكن الطلاق بداية جديدة لحياة جديدة وللانطلاق. -قطار العطاء لن يتعطل. فإن كنت السبب في الطلاق فالحمد لله على كل حال وتلك أمة قد خلت وأيام ذهبت وانجلت فلست بالمعصومة من الخطأ. وعليك استدراك الأخطاء وتقوية مواطن الضعف في شخصيتك، واجعليها درساً مفيداً في الحياة لتطوير نفسك وتقويتها. وإذا كنتِ مظلومة فهناك جبار يُحصي الصغير والكبير وسيأتي يوم ينتصر لك فيه. -ومن الجميل أن تعطي نفسك الإحساس بالحب والاحترام، ولا تتأثري بأي نظرة سلبية من المجتمع وكون البعض يتعامل مع المطلقة على أنها حالة خاصة فعليكِ إثبات ذاتك حتى تفرضي على الكل شخصيتك. - نظرتك لنفسك اجعليها نظرة ايجابية مشرقة ولا تنزلقي في مستنقع نبذ الذات وظلم النفس. - ابحثي عن الصفات الجيدة فيك فإن ذلك سيشعرك بالثقة في ذاتك والتقدير لها. -حاولي مراجعة نفسك للخروج بإيجابيات حصلت لك من طلاقك. - خالطي الآخرين وإياك والعزلة بسبب وضعك الجديد فلست بأول من يبتلى بالطلاق. -استمتعي بالموجود ولا تتعلقي بالمفقود، حلقي بروح تعبق أملاً وتفاؤلاً، استمتعي بما وهبك الله من نعم (صحة وأولاد وأهل وصديقات وعمل وهوايات وغيرها من الأمور الجميلة) فما حصل لك حصل… ولابد أن تتقبليه برضا، وأعلمي أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وقال أصدق من قال: ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم). فالرضا سر السعادة الحقيقي. - اقتربي من صديقاتك الصالحات، واقضي معهن وقتاً طيباً تنسين به ألمك وحزنك. - احرصي على الصلوات وقراءة القرآن الكريم والذكر والاستغفار وأكثري من الطاعات قدر ما تستطيعين، ففيها السلوى والفرح والسعادة. ونعم سعادة القرب من الرحمن. - اشغلي نفسك بأعمال البر والإحسان بمساعدة محتاج. بكفالة يتيم. بتعلم الفقه والقرآن وتعليمه. - اجتهدي في عمل برنامج يومي لك يكون ممتلأ بكل ما هو مفيد لك. من قراءة وزيارة الأصدقاء وصلة الرحم. بحيث لا تكون هناك دقيقة أنت فارغة فيها. - وأسرعي بقاربك الجميل بمجذافين من إيمان بالله وثقة بالنفس وسوف تصلين بإذن الله نحو جزيرة السعادة والنجاح. لكي تتسلق جبال الإنجاز، وتصل لأعلى مراتب الاعجاز. وعندها جزماً سيكون للحياة معنى آخر. --------------------------------- (١)-سورة البقرة الآية (٢٢٦-٢٢٧). (٢)-الكافي (٢)-سورة البقرة الآية (٢٢٨) حنان ستار الزيرجاوي
اخرىالمرأة في فكر الإمام علي (عليه السلام)
بقلم: أم نور الهدى كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) اهتمام خاص بالمرأة، فنراه تارة ينظر إليها كآية من آيات الخلق الإلهي، وتجلٍ من تجليات الخالق (عز وجل) فيقول: (عقول النساء في جمالهن وجمال الرجال في عقولهم). وتارة ينظر إلى كل ما موجود هو آية ومظهر من مظاهر النساء فيقول: (لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليس قهرمانة). أي إن المرأة ريحانة وزهرة تعطر المجتمع بعطر الرياحين والزهور. ولقد وردت كلمة الريحان في قوله تعالى: (فأمّا إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة النعيم) والريحان هنا كل نبات طيب الريح مفردته ريحانة، فروح وريحان تعني الرحمة. فالإمام هنا وصف المرأة بأروع الأوصاف حين جعلها ريحانة بكل ما تشتمل عليه كلمة الريحان من الصفات فهي جميلة وعطرة وطيبة، أما القهرمان فهو الذي يُكلّف بأمور الخدمة والاشتغال، وبما إن الإسلام لم يكلف المرأة بأمور الخدمة والاشتغال في البيت، فما يريده الإمام هو إعفاء النساء من المشقة وعدم الزامهن بتحمل المسؤوليات فوق قدرتهن لأن ما عليهن من واجبات تكوين الأسرة وتربية الجيل يستغرق جهدهن ووقتهن، لذا ليس من حق الرجل إجبار زوجته للقيام بأعمال خارجة عن نطاق واجباتها. فالفرق الجوهري بين اعتبار المرأة ريحانة وبين اعتبارها قهرمانة هو أن الريحانة تكون، محفوظة، مصانة، تعامل برقة وتخاطب برقة، لها منزلتها وحضورها. فلا يمكن للزوج التفريط بها. أما القهرمانة فهي المرأة التي تقوم بالخدمة في المنزل وتدير شؤونه دون أن يكون لها من الزوج تلك المكانة العاطفية والاحترام والرعاية لها. علماً أن خدمتها في بيت الزوجية مما ندب إليه الشره الحنيف واعتبره جهادًا لها أثابها عليه الشيء الكثير جدًا مما ذكرته النصوص الشريفة. فمعاملة الزوج لزوجته يجب أن تكون نابعة من اعتبارها ريحانة وليس من اعتبارها خادمة تقوم بأعمال المنزل لأن المرأة خلقت للرقة والحنان. وعلى الرغم من أن المرأة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فإنها تستطيع كالرجل أن تنال جميع الكمالات الأخرى، وهذا لا يعني أنها لا بد أن تخوض جميع ميادين الحياة كالحرب، والأعمال الشاقة، بل أن الله تعالى جعلها مكملة للرجل، أي الرجل والمرأة أحدهما مكمل للآخر. وأخيرًا إن كلام الإمام علي (عليه السلام) كان تكريمًا للمرأة ووضعها المكانة التي وضعها الله تعالى بها، حيث لم يحملها مشقة الخدمة والعمل في المنزل واعتبر أجر ما تقوم به من اعمال في رعاية بيتها كأجر الجهاد في سبيل الله.
اخرىأساليب في التربية
عالم الطفولة كأنه طاولة، لا تجد فيه غير طعام لذيذ، ومنظر لطيف وجديد، فعالمهم فاكهة الوجود، وخضار الأرواح، ومياه الحياة تسقي القلوب... عالم صفاء وأحلام جميلة بسيطة وتافهة ولكن بنظرهِ هو عظيمة وكبيرة، فهو العالم الذي ينطلق منه الإنسان في بداية عمره. فالطفل في بداية حياته ينظر إلى الحياة بتفكيره البريء، فالطفل يعيش بعالم خاص به مملوء بالمحبة البريئة. هذه هي الصورة الجميلة التي يحملها الطفل، وكم يتمنى كل إنسان أن يعود لطفولته البريئة ليتأمل في أرجاء عالمها الذي كان يصور له حياة مختلفة تشد الإنسان إليها بجمالها، هذا هو عالم الطفولة وهذه أحلام من يعيشها، فلا ينفذ إلى ملكوت ذلك العالم ولا يدرك كنهه إلا من عاشه وجال في ربوعه. حيث يتذوق الطفل مع أحلام طفولته هذه لذة الحياة ولذة العيش فيها، ومهما حاولنا أن نعبر عن هذه الحقيقة فلن نستطيع تصويرها بالكلمات. وبعد هذا، فإن الاهتمام بمستقبل الطفل هو في الواقع ضمان لمستقبل شعب بأسره. قال اللَّه تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا". التحريم/6 أعتنى الإسلام بتربية الأبناء عناية فائقة، وألقى على عاتق الأهل ما سيكون عليه الولد في مسلكه الدنيوي ومصيره الأخروي إن هم قصروا في تربيته وإعداده. وقد ذكر العلماء أن شخصية الولد تتأثر في نموها بعوامل ثلاثة وهي: الوراثة، والبيئة، والتربية. إذا خضنا في مضمار التربية السليمة للأبناء... فعلى الأبوين أن يكون لهما الوعي التربوي الذي يبنى على أسس صحيحة ويتوفر لديهم فهم لأساليب التربية والتوجيه والرعاية وهذه نقطة البداية. فمثلاً في أسلوب التعامل مع الطفل تبرز أمامنا ثلاثة اشكال لتعامل الآباء مع الأبناء: الشكل الأول: أسلوب الدلال المفرط وهذا الأسلوب له نتائجه السلبية الخطيرة، فإنه يخلق شخصية هشة متميعة وشخصية اتكالية تحب الكسل والخمول مجردة من الهدف والإقدام، انهزامية غير قادرة على مواجهة التحديات وبمعنى أدق شخصية لا تثق بنفسها. شخصية متسيبة في ظل غياب المراقبة والمحاسبة وهذا التسيب يقود إلى الانفلات والانحراف. الشكل الثاني: فهو أسلوب التربية القاسية والعنف. وهذا الأسلوب أيضاً له نتائجه الخطيرة والسلبية التي يعاني منها الأبناء طوال حياتهم فهو يخلق شخصية قلقة ومتأزمة ومعقدة وخائفة وتحمل عقدة الخوف، شخصية حاقدة وعدوانية وقد تتأزم الأمور لتصبح شخصية منافقة وكاذبة خوفاً من العقاب والتعنيف ضمن حدود الأسرة ولكن يوماً من الأيام سينطلق هذا الشخص ليواجه المجتمع ككل، فلنتصور كيف سيتعامل مع المحيطين ضمن مجالات الدراسة والعمل وهو شخصية هاربة من أجواء الأسرة وقد يعرضها للتسيب والانحراف لأنها شخصية متمردة مما يعرضها للعقوق. الأسلوب الثالث: التوازن. الأسلوب الصحيح يعتمد على التوازن فمن شروط نجاح التربية التوازن في المعاملة ما بين الأمور التي تحتاج إلى شدة وحزم ليتربى على أن هذه الأمور خطوط حمراء طبعاً هنا يمكن أن يعترض أحد ويقول: لا للعنف الأسري ولا لاستخدام القسوة. نعم فهناك طرق غير استخدام العنف. يكفي ان يبدي الآباء انزعاجهم مثلاً. وهنا النقطة مهمة جداً، وهي: أن نوضح لهم سبب المنع والرفض لا تعتقدوا أن أبناءكم لا يدركون ولن يفهموكم. تخصيص الوقت للنقاش مهم جداً. وما بين أسلوب المرونة والحنان والاحتواء. التوازن في المعاملة. إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) يصرح بمسؤولية الأبوين بتربية الطفل، ويعتبر التنشئة الروحية والتنمية الخلقية لمواهب الأطفال واجباً دينياً يستوجب أجراً وثواباً من الله تعالى، وأن التقصير في ذلك يُعرّض الآباء إلى عقاب الله. فيقول (عليه السلام): (وأما حق ولدك عليك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره. وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز وجل والمعونة له على طاعته. فأعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه ) مكارم الأخلاق للطبرسي ص٢٣٢ حنان الزيرجاوي
اخرى
فلاح حسن عبدالرضا العزاوي
منذ 6 سنوات
أسأل الله تعالى لكم التوفيق ومزيد من الإبداع