Profile Image

يا مهدي ادركني

نجوم عاشورائية (12) القرآن والأصحاب/ الجزء الأول

بقلم: يا مهدي أدركني القرآنُ والأصحابُ فلنكسر حاجزَ الزمنِ وننتقل إلى صورةٍ من صورِ ليلةِ العاشرِ من محرمٍ عام 61 للهجرة، حيثُ كان في أرضِ كربلاء مُخيمٌ يسطعُ نورُه لأهل السماء بتراتيلِ القرآنِ وتهجدٍ وعبادة، أصواتٌ خاشعةٌ تصلُ إلى مسامعِ البنتِ الحيية في خدرِها فتزيدها عفةً وحياءً ونورًا وبهاءً... تلك الأصواتُ التي عبّرتْ عنها الرواياتُ بأنّها كدويّ النحلِ لم تهدأ في تلك الليلة... فما هو سرُّ تلك الأصوات؟ ولماذا كانت بتلك الغاية من الروعةِ والجمال؟ هي أصواتٌ كانت تبتدئ ذبذباتُها من قلوبٍ قابعةٍ في صدورٍ خاشعةٍ من خيمِ أنصارِ الإمامِ الحسين (صلواتُ الله وسلامُه عليه)؛ لتُرسلَ أمواجَها إلى يومِنا هذا.. وإنَّ السرَّ في عذوبتِها هو كونُها صادقةً لم تكن مراءً، وإنّما هي صوتُ الإيمانِ النقي الخالص من الشوائب. قد تتبادرُ إلى الذهنِ تساؤل عن سببِ تمسُّكِ هذه الثلةِ المؤمنةِ بتلاوةِ القرآن الكريم في هذه الليلةِ التي كانوا على يقينٍ بأنّهم سيفارقون الدنيا بعدها وهم قد نالوا شرف الشهادة بين يديّ سيّدِ شبابِ أهلِ الجنة (صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه). وللجواب عن هذا التساؤل نذكر النقاطِ التالية لتوضيح الأمر: الأولى: فضلُ قراءةِ القرآن الكريم إنَّ للقرآنِ الكريمِ فضلًا عظيمًا لا يسع المقام لذكره؛ لأنّه كلامُ الله (تعالى)، وحيثُ إنَّ اللهَ (تعالى) غيرُ متناهٍ ولا يُمكِنُ أنْ يصلَ أحدٌ إلى معرفةِ كماله المطلق فإنَّ كُلَّ ما يتعلقُ به (تعالى) من صفاتٍ وأفعالٍ هي أيضًا غيرُ متناهيةٍ ولا يُمكنُ الحدُّ من فضلها. وقد روي عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): "فضلُ القرآنِ على سائرِ الكلام كفضلِ اللهِ على خلقه"(1) وجاء في الحديث النبوي بأنّه "لا تُحصى عجائبُه، ولا تُبلى غرائبُه"، والمقصودُ بذلك أنّه مهما تقدّمَ الزمنُ وتطوّر الإنسانُ فإنَّ القرآنَ الكريم سابقٌ لهذا التطوّر وإنَّ إعجازَه يتركُ بصمةً في كُلِّ علمٍ، وهو لينٌ أنيقٌ وباطنُه عميق، من آثاره –على سبيل المثال لا الحصر-: الأول: الشفاء قال (تعالى): "ونُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"[الإسراء82]، والأمراضَ منها ما هو بدنيٌّ يصيبُ الأبدانَ فيعييَها، ومنها ما هو يصيبُ الروحَ فيجعلها تتورطُ في مزالق الحياة. ومن الملاحظ إنَّ الآيةَ الكريمة لم تُحدِّدْ أيَّ نوعٍ من الأمراضِ التي يكونُ القرآنُ الكريمُ شفاءً لها، فهو شفاءٌ مُطلقٌ لكُلِّ الآفات. الثاني: الشفاعة عن أمير المؤمنين (صلواتُ الله وسلامُه عليه) قال في إحدى خطبه: "اعلموا أنّ القرآن شافع ومشفّع، وقائل ومصدّق، وأنّه من شفّع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه) (2) الثالث: الأمانُ من العذاب إنَّ الله (تعالى) لم يخلقْنا ليُعذبَنا أو يشقينا، وإنّما جعلَ البلاء أداةً ليُمحصنا وينقينا وخيرُ ما نستعينُ به على البلاء هو القرآن الكريم، فهو الذي يُنجينا من عذابِ الآخرةِ؛ فقد ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): "لا يُعذِّبُ اللهُ قلبًا أسكنه القرآن". الرابع: مصدرٌ للطاقةِ الإيجابية فقد أجريَت تجاربُ عديدةٌ تبيّنُ كيف أنَّ لذبذباتِ قراءةِ القرآن الكريم أثرًا في تشكيلِ جُزيئاتِ الماء بشكلٍ جميلٍ؛ فهي تتأثرُ بتلك الكلمات لما فيها من طاقةٍ إيجابيةٍ هائلة. وهناك العديدُ من الفضائل، فحقلُ القرآن الكريم واسعٌ جدًا ولكُلِّ زهرةٍ فيه نوعٌ ورائحةٌ ولونٌ يُبهِرُ العقول. للكلام تتمة إن شاء الله تعالى... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- بحار الأنوار/ج92/ ص19 2- نهج البلاغة الخطبة 171 3- بحار الأنوار/ ج92/ ص187

اخرى
منذ 4 سنوات
409

نجومٌ عاشورائية (12) القرآنُ والأصحاب/ الجزء الثاني

بقلم: يا مهدي أدركني الثانية: تِلاوةُ القرآنِ من صفاتِ المؤمنين أكّدتِ الرواياتُ الشريفةُ فضلًا عن الآياتِ القرآنية على مُلازمةِ القرآنِ الكريم للمؤمنين، وهُنا لا بُدَّ من الإشارةِ إلى نكتةٍ مهمةٍ جدًا، وهي: إنَّ التلاوةَ هنا ليس المرادُ بها مُجرد القراءةِ من دونِ تدبرٍ، وهذا الأمرُ واضحٌ جليٌ؛ فإنّ المؤمنَ عندما يقرأ القرآنَ الكريم تكونُ غايتُه الأساسية هي الغوص في أعماقه، والتزوّد من كنوزه؛ ليكونَ لها أثرٌ في سلوكياته من جهةٍ، وزادٌ له في الآخرةِ من جهةٍ أخرى، فقد قال الله (تعالى) في كتابه الكريم: "الَّذِين آتَيْناهُم الْكِتاب يَتْلُونَه حَق تِلاوَتِه أُولئِك يُؤْمِنُون بِه"[البقرة 121] وفي الروايةِ المذكورة عن أبي جعفرٍ الباقر (صلواتُ الله وسلامُه عليه) أنّه قال: يا أبا المقدام، إنّما شيعةُ علي (صلوات الله عليه) الشاحبون، الناحلون، الذابلون، ذابلةٌ شفاههم من القيام، خميصةٌ بطونُهم، مُصفرةٌ ألوانُهم، مُتغيرةٌ وجوههم. إذا جنّهم الليلّ اتخذوا الأرضَ فراشًا، واستقبلوها بجباههم، باكيةً عيونهم، كثيرةً دموعهم، صلاتُهم كثيرةٌ، ودعاؤهم كثيرٌ، تلاوتُهم كتابُ الله)(1) لذا نجدُ أنّ أهلَ البيت (صلواتُ الله وسلامُه عليهم) حثّوا شيعتهم على المواظبةِ على القراءة؛ لما فيها من الأجرِ العظيم والثوابِ الجزيل. الثالثة: وسوسةُ الشيطانِ اللعين لترك القرآن الكريم لما تقدّمَ من الفضلِ العظيمِ من قراءةِ القرآنِ الكريم نجدُ أنّ الشيطانَ يعملُ جاهدًا ليمنعَ الإنسانَ من تلاوةِ القرآن الكريم، فيبدأ باختلاقِ الأعذار التي تكون مانعًا دونه.. إنّ اللهَ (تعالى) جعل من أحدِ آدابِ قراءة القرآن الكريم هي الاستعاذة من الشيطان الرجيم، لتكون للمؤمن حجابًا يصدّه عن أنْ تتخلّلَ وساوسه إلى نفسه ليبعده عن إتمام قراءته. وقد ورد عن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه ) أنّه قال: "البيتُ الذي يُقرأ فيه القرآنُ، ويُذكرُ اللهُ (عزَّ وجل) فيه تكثرُ بركتُه، وتحضرُه الملائكةُ، وتهجرُه الشياطينُ، ويُضيئُ لأهلِ السماءِ كما تُضيئُ الكواكب" وبعد أنْ بيّنا بعضَ النقاطِ المهمة حولَ تلاوةِ القرآنِ الكريم، ننتقلُ إلى خيامِ النور التي كانت تُزهرُ لأهلِ السماء بتلك التلاوةِ المُعطرة، وعن سرِّ تلك التلاوة في تلك الليلة بالتحديد. إنَّ التوفيقَ الإلهي منه ما هو عامٌ لكُلِّ البشر، بل لكُلِّ الموجودات، ومنه ما هو خاصٌ ببعضِ الموجودات دون الأخرى، ومنه ما هو خاصٌ بفئةٍ قليلةٍ معينةٍ ممن خاضوا حروبًا طويلة في جهادِ النفسِ؛ ليُحققوا نصرًا عظيمًا، فينالوا بذلك اللطفَ المُقرِّبَ ليرتقوا فيه سلالم التكامل.. ولكُلِّ درجةٍ من تلك الدرجات عنوانٌ معينٌ ومختلفٌ من شخصٍ لآخر حسبَ الظروفِ الموضوعية والاجتماعية التي يتعرضُ لها، فتكون على شكلِ ابتلاءاتٍ خاصةٍ يصبرُ عليها ذلك المؤمن، ومنها ما هو له عنوانٌ عامٌ كبِرِّ الوالدين، وحُسنِ الخُلُقِ، والصبرِ على المعصية أو الطاعة وما إلى ذلك من عناوينَ عديدةٍ لا يُمكنُ حصرُها؛ وذلك لأنّ سُلّمَ التكاملِ غيرُ متناهٍ. ومما لا شكَّ فيه أنّ من توفقَ لنيلِ شرفِ لقبِ (صاحب الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)) لا بُدّ أنْ يكونَ قد كابدَ كثيرًا حتى وصلَ إلى تلك الدرجةِ العالية. ومن سَلَكَ هذا الطريق لا تخفى عليه أهميةُ تلاوةِ القرآنِ الكريم، بل كانَ الكثيرُ منهم من حفظةِ القرآنِ الكريم وممن يختمونَ القرآنَ في ليلةٍ واحدةٍ، وخيرُ شاهدٍ على ذلك قولُ الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) بعد استشهادِ شيخِ الأصحاب حبيب بن مظاهر الأسدي (رضوانُ اللهِ (تعالى) عليه): "رحمك اللهُ يا حبيبُ؛ فقد كُنتَ فاضلًا، تختمُ القرآنَ في ليلةٍ واحدة" لذا فهم لم يفوتوا ذلك الفضلَ العظيم، بل حاولوا أنْ يتزوّدوا حتى في ليلتِهم الأخيرةِ بتلك التلاوة وفضلّوها على النومِ؛ لشحذِ هممِهم والتقرُّبِ إلى عالمِ الملكوت ليغترفوا من حياضِ الرحمة الإلهية، وليزيدوا من رصيدهم في الآخرة (رضوانُ الله (تعالى) عليهم). فائدة: مما تقدَّمَ يُمكِنُ لنا أنْ نخرجَ بما يأتي: يجبُ أنْ نضعَ نصبَ أعينِنا أنَّ القرآنَ الكريم من أعظمِ الوسائلِ التي بها نُجابهُ الصعاب، ولتكنْ لنا عادةٌ مستمرةٌ تأنسُ بها النفسُ، وليس فقط عند نزول البلاء. ولتكنِ القراءةُ لا لأجلِ ختمِ القرآن الكريم فقط، وإنّما لتكنِ الغايةُ أعظمَ من ذلك، وهي التدبُّرُ في آياته. فليستِ العبرةُ بعددِ المرات التي نختم بها القرآنَ الكريم، ونحنُ نمرُّ على آياتِ النهي عن الغيبة ونستغيبُ الآخرين، ونُرتِّلُ آياتِ العفةِ والحجاب ثم نتزينُ ونخرج، ونقرأُ آياتِ البرِّ بالوالدين ونعقّهما، وما إلى ذلك من أمثلةٍ عديدة. نسألُ اللهَ (تعالى) أنْ يجعلَنا وإياكم ممن يقرؤون القرآن، ويتدبرون آياته ويعملون بها. والحمدُ للهِ ربِّ العالمين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- صفات الشيعة، الشيخ الصدوق، ص 10 2- الكافي، ج 2، الشيخ الكليني، ص 610 3- المنهج العبادي ص16

اخرى
منذ 4 سنوات
404

من نسماتِ الكفيل (عليه السلام)

بقلم: يا مهدي أدركني كنتُ أقفُ في وسطِ زحامِ النساء، ولكنّي حينها أحسستُ بأنْ لا طاقة لي على الدخول في وسطه؛ فلم تَعُدْ أضلعي تتحملُ ذلكَ الضغطَ الشديد، والدموعُ في عيني تدفعُني للدخول؛ فإنا متلهفةٌ جدًا لأن أكونَ بالقربِ منه، حينها أمرتْ نفسي الوالهةُ قدميَّ بالدخول.. وما إن هممتُ بالخطوةِ الأولى وإذا بصوتٍ في وسطِ ذلك الزحام: "أختي! تفضّلي بالدخولِ من هذا الباب؛ لتجنبِ الزحام، نحنُ خُدّامُ أبي الفضل (سلام الله عليه) نودُّ أنْ نُخفِّفَ عنكم" وإذا ببابِ صاحبِ الزمان (عجّل الله (تعالى) فرجه الشريف) تُفتَحُ أمامي، فتتكحّل عيناي بضريحٍ كأنّه حُلّة من نورٍ لا تنطفئ، وبنسماتٍ عليلةٍ تسقي قلبي المُتعطش، فلم أتمالك دموعي، وفي نفسي خجلٌ عميقٌ كأنّه بحرٌ يشدُّني بأمواجه إلى قاعِه ليخبرَني: "ماذا فعلتِ؟ أنتِ لا تستحقين الدخول! أنتِ لا تستحقين كُلَّ هذا الكرم!" نعم، لا يستحقُّ أحدٌ كرمَهم، ولكنّهم أهلُ الجود والسخاء، فليس هناك مقياسٌ لعطائهم... انطلقتْ روحي وأنا على أعتابِ الصحنِ الشريف، ترفرفُ فوقَ ضريحِه الطاهر، تسقطُ مرةً وتنهضُ أخرى، تطوفُ حولَه وتسأله عن أحوالِ الكفين، وعن قربةٍ لا زالتْ تسقي بمائها قلبًا شغوفًا، وإذا بنفسِ الصوتِ يُكلِّمُني: "أختي ما بالكِ واقفة، ألا ترغبين بالزيارة!" فأجابتْه روحي: وهل للجسدِ إذنٌ بالدخول!؟ فكيفَ لهذا المكان الذي سُقيَ بدماءٍ زاكياتٍ أنْ يدخلَه من تلوَّثَ بمُغرياتِ الحياة؟! كيفَ له وقد كُبِّلَ بسلاسلِ التكبّر والرياء؟! فقال لي: لكِ أنْ تدخلي لتُطهّري تلكَ الروح من كُلِّ تلك الآفات؛ فهو الذي فتح بابَه لكِ لتدخلي... نعم، فتحَ لي أبوابًا عديدةً، ومن كُلِّ بابٍ سقاني شربةَ ماءٍ تُطهِّرُ نفسي وقلبي، وما زالت أبوابُه تفتَحُ لي أروقةً جديدة.. وأنا بثوبِ حيائي منه أتعثّرُ، وعندما أسقطُ يرفعُني بنظرةٍ من عينيه حتى أرسلَ لي من يتكفّلُني وأكون في عُهدتِه؛ ليكونَ سندًا لي في أوقاتِ شدّتي، أتمسّكُ بطرفِ عباءتِه بيدٍ وبالأخرى أمسكُ بحجابي وخماري... هو لا يلتفتُ إليّ أبدًا لكنّه يرسمُ لي الطريق، يُحذِّرُني من هفواتٍ قد تنزلقُ بها قدماي؛ لأصلَ إلى برِّ الأمانِ حيثُ مولاتي الحوراء (سلام الله عليها)..

اخرى
منذ 4 سنوات
532

نجومٌ عاشورائيةٌ (13) بكاءُ الإمامِ الحُسين (صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه)

بقلم: يا مهدي أدركني رحلةُ عاشوراءَ كقافلةٍ تمرُّ بذكرياتٍ لها رائحةُ الحزنِ والبكاء، فما إنْ تهب رياحُ شهرِ محرمٍ حتى توقِظُ فينا الحياة، ونسمعُ أنينًا ونحيبًا يملأ الطُرُقات... صورٌ بطعمِ الشجاعةِ والقوّةِ مُختلطةٌ بدموعِ الرجال، قد يتوهمُ البعضُ للوهلةِ الأولى كيفَ للدموعِ أنْ تجتمعَ بصورِ البطولةِ والشموخِ والإباء... سؤالٌ لطالما يتردّدُ على الألسنِ: كيفَ للإمامِ الحُسينِ (صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه) الذي أمرَ أختَه الحوراء (عليها السلام) أنْ لا تبكي أمامَ الأعداءِ كي لا يشمتوا بها، فيبكي هو وتسيلُ دموعه الشريفة؟! وكيف للقوةِ والشجاعةِ أنْ تجتمعَ مع الضعفِ والبكاء؟ لتوضيحِ ذلك نطرحُ الأمرَ على شكلِ نقاط: الأولى: معنى البكاء يُعدُّ البكاءُ حالةً من حالاتِ النفسِ الإنسانية، تكشفُ عن حالةٍ عاطفيةٍ يمرُّ بها الإنسانُ وتكونُ ناتجةً عن ألمٍ أو حزنٍ أو غضبٍ أو خوف. فهو إذن صفةٌ إنسانيةٌ، وكُلّما كانت هذه النفسُ الإنسانيةُ شفافةً طاهرةً كانَ انفعالُها العاطفي أشدَّ وأسرع، فهي علامةٌ لرقةِ القلوبِ ونقائها، وإنّ اتصافَ الفردِ بها على نحو التوازنِ يكونُ كمالًا له لا نقصًا. الثانية: هل هناكَ تضادٌّ بين الاتصافِ بالشجاعةِ والبكاء؟ هُنا لا بُدَّ أنْ نعلمَ بأنَّ التضادَّ هو استحالةُ اجتماعِ بعضِ الصفاتِ في الشيء الواحدِ من جهةٍ واحدةٍ وفي آنٍ واحد، فيجبُ أنْ تتوفرَ الشروطُ المُتقدمةُ وإلا فلا مانعَ من تواردهما على الشيء الواحد إذا لم تتوفرْ بقيةُ الشروط، فإنّ البرودةَ والحرارةَ مثلًا من الصفاتِ المُتضادة إذا ما توفّرتِ الشروطُ المتقدمة. أما إذا كانَ نفسُ الجسمِ باردًا في آنٍ مُعينٍ وحارَا في آنٍ آخر بعد تعرُّضِه للنارِ مثلًا، فهُنا لا يستحيلُ اجتماعُ هذين الوصفين في الجسمِ الواحدِ، وهذا بشكلٍ عامٍ يشملُ جميعَ الصفات. أمّا بخصوصِ البكاءِ الذي هو محورُ بحثِنا هذا فنقول: كما تقدَّمَ أنَّ البكاءَ حالةٌ نفسيةٌ وتعكسُ حالاتٍ عديدةٍ، فمنها الخوفُ كبكاءِ الأطفالِ أو بكاءِ الشخصِ الجبان، وقد تكونُ دلالةً على رِقّةِ القلبِ أو الخشوعِ أو الحزن، فأمّا الأولُ فمن المُمكن أنْ يكونَ صفةً مُضادةً للشجاعةِ فيما إذا اجتمعتِ الشروطُ التي تمَّ ذكرُها آنفًا. أما الثاني فهو دلالةٌ على حالاتٍ أخرى تعتري النفسَ كالألمِ والحزنِ، وهُنا لا يتحققُ التضادُّ بينها وبين الشجاعة، فإنَّ حالاتِ الخشوعِ والرقةِ والرحمةِ ممكنٌ أنْ تجتمعَ مع الشجاعةِ والبطولة. الثالثة: الدليلُ على أنَّ البكاءَ والحزنَ من صفاتِ المؤمنين خيرُ ما نستدلُّ به على ذلك هو القرآنُ الكريم؛ إذ جاء وصفُ البكاءِ في آياتِ على سبيلِ المدحِ لا الذم، ومنها: 1- قولُه (تعالى): "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً"[الإسراء 107-109] ففي هذه الآيةِ يصفُ اللهُ (تعالى) المؤمنين، ويجعلُ البكاءَ دلالةً على خشوعِهم. 2- وقوله (تعالى): "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ"[المائدة 83]، فإنَّ النفسَ إذا ما تطهّرت فإنّها ستكونُ وعاءً للحقِّ؛ فإذا ينكشفُ لها الحقَّ ترِقُّ القلوبُ وتفيضُ العيون، وهذه أيضًا من صفاتِ المؤمنين كما هو واضح. 3- وقوله (تعالى): "وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ"[يوسف84]، وهُنا نجدُ أنَّ اللهَ (تعالى) وصفَ حالَ نبيّه يعقوب (عليه السلام) كيف كان يُكثِرُ من البكاء حتى أدّى به إلى أنْ يفقدَ بصره. وهناك آياتٌ كثيرةٌ يُمكِنُ مراجعتها في كتب التفسير، وفي المقامِ نقول: إنَّ الله (تعالى) عندما جعل هذه الصفة من الصفاتِ اللائقةِ بالمؤمنين، بل هي من الصفاتِ التي ليس من السهولةِ الحصولُ عليها إلا بعد أنْ يتمحّضَ الإيمانُ في قلبِ المؤمنِ ويجاهدُ نفسَه ليرتقي سلالمَ الكمالَ لينال هذه الدرجة من الخشوع وتجلّي الحق له، عندها ستكونُ من الصفاتِ الممدوحة لا المذمومة كما يتصوّرُ البعض. الرابعة: نكتة عقائدية إنَّ من شروطِ النبوّةِ والإمامةِ العصمةَ؛ (وهي عدمُ الوقوعِ في الخطأ سهوًا أو عمدًا)، وأنْ يكونَ المعصومُ أفضلَ أهلِ زمانِه خلقًا وخُلُقًا وعلمًا وما إلى ذلك من صفاتٍ، وإلّا سيكونُ ترجيحه على غيره في هذا المنصب ترجيحًا بلا مُرجِّح أو للمرجوح. وعليه، نجدُ أنَّ الأنبياءَ والأئمةَ (صلوات الله وسلامه عليهم) أفضلُ أهلِ زمانِهم على الإطلاق، وإنَّ كُلَّ ما يصدرُ منهم من أفعالٍ وكلامٍ يكونُ على أعلى درجاتِ الكمال التي يُمكِنُ أنْ يصلها المخلوق. وهذا يعني أنَّ المعصومَ لا يتصفُ بالصفاتِ الرذيلةِ القبيحةِ كالخوفِ المذموم والجبن وما إلى ذلك، وأنّ بكاءه إنّما يكونُ منشؤه العاطفةَ والرحمةَ والإيمانَ والخشوعَ بصورةٍ متزنةٍ تُلائمُ الظرفَ الذي هو فيه، وأنّ كُلّ فعلٍ يقومُ به -ومنه (البكاء)- فهو لغرضٍ وهدفٍ ونكتةٍ تربويةٍ وإن كنا نجهلها في بعض الأحيان. هذا بالإضافة إلى أنَّ بكاءَ المعصومِ فيه إشارةٌ إلى أنّه لم يخرجْ من حدودِ الإنسانيةِ فهو وإنْ كان معصومًا ولكن هذا لا يُنافي كونه إنسانًا خُلِقَ على نفسِ التركيبة التي خُلِقَ منها سائرُ البشرِ؛ لأنه فردٌ من هذا النوع البشري، وأنّ لديه قوىً نفسيةً يتشاركُ بها مع بقيّةِ أبناءِ نوعه. الخامسة: مواطنُ بكاءِ الإمامِ الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) يومَ عاشوراء: إنَّ الأحداثَ التي جرتْ في اليومِ العاشرِ من محرم كانت من القساوةِ التي لا يُمكِنُ أنْ توصفَ ولا يُمكِنُ لأي شخصٍ أنْ يتخيّلَ حقيقةَ المصابِ الذي جرى على أهلِ البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، فقد شاهدَ الإمامُ الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) كيفَ أنَّ أصحابَه وأهلَ بيته وإخوته وأولاده يُقتَلون وتُقطَع أوصالُهم أمامَ مرأى ومسمع منه، بل إنّ لمشهدِ مقتلِ الطفلِ الرضيع من الألمِ ما تنهدُّ لأجلِه الجبال الرواسي؛ إذ كيفَ لأبٍ أنْ يُذبَحَ رضيعُه في حضنِه من الوريدِ إلى الوريد؟! فكيف بقلبِ مولانا الإمامِ الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، ألا يبكي من شدَّةِ تلك المصائب وهو يحملُ في داخله قلبًا نقيًا طاهرًا شفافًا؟ ومن تلك المواقف التي شوهدت فيها دموعُه الشريفةُ وهي تجري على شيبتِه الكريمة: الأول: بكاؤه على علي الأكبر (صلوات الله وسلامه عليهما)، فعند مصرعِه وقفَ (عليه السلام) يقولُ: لعنَ الله قومًا قتلوكَ يا ولدي، ما أشدَّ جرأتِهم على الله وعلى انتهاكِ حرمِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، وأهملت عيناه بالدموع(1) الثاني: بكاؤه على أخيه العباس (صلوات الله وسلامه عليهما) عند مقتلِه، قال الإمام (عليه السلام): واعباساه! وامهجة قلباه! وحملَ عليهم وكشفَهم عنه، ونزلَ إليه وحملَه على جوادِه فأدخلَه الخيمةَ وبكى بكاءً شديدًا(2) الثالث: مقتلُ الطفلِ الرضيع، فقد قال (عليه السام): "اللهم إنّك شاهدٌ على هؤلاءِ القومِ الملاعين، إنّهم قد عمدوا أنْ لا يُبقونَ من ذريةِ رسولِك (صلى الله عليه وآله) ويبكي بكاءً شديدًا..."(3). وفي روايةٍ أخرى عندما وقعَ السهمُ في نحرِه بكى الإمامُ الحسين (عليه السلام) وقال: "اللهم احكمْ بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا"(4) الرابع: بكاؤه عند بلوغِه خبرَ مقتلِ مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) وقيس بن مسهر الصيداوي (رضوانُ الله (تعالى) عليهما) بعد أن قتلهما عبيد الله بن زياد في الكوفة(5) الخامس: بكاؤه (عليه السلام) على الحرِّ الرياحي (رضوان الله (تعالى) عليه)(6) فإنَّ هذه المواطن الخمسةَ المتقدمة –مما وجدناه حسب الاستقراء الناقص- كان دافعُ البكاءِ فيها هو الحزنُ الشديدُ على ما أصابَ أولادَه وأصحابَه في سبيله. وهذا لا يُنافي صورُ الشجاعةِ التي كان يضربُها (صلوات الله وسلامه عليه) في ميدانِ المعركة، بل نقولُ إنَّ عدمَ البكاء في هذه المواقف إنّما يدلُّ على قساوةِ القلبِ وتجرُّدِه من العاطفة، وهذا في الحقيقة أمرٌ ممقوتٌ تنفرُ منه النفسُ الإنسانية؛ لأنّ التجرُّدَ من العواطفِ هي في الحقيقة حالةٌ عدميةٌ تفتقرُ إلى الكمالِ الفطري الذي أودعه اللهُ (تعالى) فينا. ختامًا نقول: إنَّ بكاءَ الإمامِ الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) لم يكنْ بكاءَ ضعفٍ، أو هزيمةٍ كما يتوهمُ البعضُ، وإنّما في الحقيقةِ كان يُمثِّلُ القوةَ الإنسانيةَ المُتكاملةَ المُتجسدةَ في شخصِه (صلوات الله وسلامه عليه) الناتجةَ من نفسٍ عظيمةٍ رؤوفةٍ، صنعتْها مبادئُ الإسلامِ الأصيلةُ التي ارتوت من نبعِ جدِّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) الذي شوهدَ يبكي مرارًا وفي مواطنَ عديدةٍ ومنها بكاؤه على عمِّه الحمزة (عليه السلام) عند استشهاده في معركةِ أُحُد، فقد قال ابنُ عبد البر وغيره: "لمّا رأى النبيُّ (صلى الله عليه وآله) الحمزةَ (عليه السلام) قتيلًا بكى، فلمّا رأى ما مُثِّلَ به شهق..."(7). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1- ينابيع المودة/ ص 415، مقاتل الطالبيين 115، اللهوف 167 2- ينابيع المودة/ 409 3- ينابيع المودة / ص415 4- منتهى الآمال/ج1/ص535. 5- الفتوح/ 5/110- 145. 6- نفس المصدر المتقدم 7- النص والإجتهاد / ص293

اخرى
منذ 4 سنوات
401

الإعلامُ المُزَيَّفُ والقضيةُ الحسنيةُ والحُسينيةُ وآثارُه في مُجتمعنا اليوم/ الحلقة الأولى

بقلم: يا مهدي أدركني قد تكونُ جالسًا في غرفةٍ ما وترى نورًا يشعُّ من زاويةٍ مُعينةٍ فتتوهمُ بأنَّ الشمسَ قد أشرقتْ وأرسلتْ أشعتها؛ لتُداعِبَ زهورَ الحياة، ولكنّك إذا ما دقَّقْتَ النظرَ أو قُمْتَ بفتحِ الستائرِ فلربما تيقّنت أنَّ الشمسَ لم تُشرِقْ بعدُ وإنّما هو مصباحٌ أوحى لك بطلوعِ النهار.. هكذا هو الحالُ في كثيرٍ من الأمورِ التي نعيشُها هذه الأيام... إنَّ مصابيحَ الباطلِ التي تُريدُ أنْ تُضلِّلَ بضيائها الزائف الحقائقَ الكثيرة... ومن يتكاسل عن طلبِ الحقيقةِ فسيقع في شراكها، بل تجدُه في كثيرٍ من الأحيان يحملُ تلك المصابيحِ كالمعتوهِ مُصدِّقًا نفسه أنّه يحملُ بيرقَ الحقِّ وهذا هو أخطرُ ما يكونُ على المُجتمع.. ولطالما لَعِبَ الإعلامُ دورًا مُميّزًا في مساراتِ الحياة وعلى جميعِ المُستويات الدينية والاجتماعية، السياسية والصحية وما إلى ذلك من مفاصلِ الحياةِ المُتنوِّعة، فتارةً نجدُه يعكسُ عن صفاءِ ذاتِه بحقائقَ نقيّةٍ لا تشوبُها شائبةٌ وأخرى نجدُه يتلبّسُ بلباسِ الحقِّ وفي داخلِه سمومٌ كالأفعى ذات ملمسٍ ناعمٍ وسمٍّ فتّاك. أهدافُ الإعلامِ المُضلِّل: إنَّ لكُلِّ عملٍ ومشروعٍ غاية، وله وإرادة تتفِقُ مع تلك الغايةِ تحرك الفرد للشروعِ في وضعِ الأسُسِ والتخطيط لها، وقد تستدعي المسألةُ أعوامًا طويلةً للوصولِ إلى تلك الغايةِ وقد تُكلِّفُ مبالغَ طائلةً وذلك حسبَ أهميةِ تلك الفكرةِ والهدفِ المُرامِ منها، والإعلام المضلل له غايات وأهداف، ومنها: الأول: الهيمنة والسلطنة. وعادةً ما تكونُ تلك الغاياتُ مُلوّثةً ليس فيها من المصداقية شيءٌ، ولكنّها تحرّكتْ بدافعِ السُلطةِ والهيمنةِ على عقولٍ فرديةٍ أو جمعيةٍ، فتقودُ بذلك شعوبًا لتجعلَها تحتَ هيمنتِها فتطحنَها بأضراسِ العبوديةِ، وتنهشَها بأنيابِ الظلم. الثاني: التَسَتُر على الجرائم. إنَّ في فطرةِ الإنسانِ ميولًا للشهواتِ والغرائزِ، وهذا أمرٌ لا عيبَ فيه إذا ما استطاعَ الإنسانُ أنْ يُحكِّمَ عقلَه ويجعلَ تلك الغرائز مُنقادةً إليه، ولكنَّ الخطرَ يكمُنُ فيما إذا فَلَتَ من يديه زمام الأمرِ وعَلَتْ سطوةُ اللذائذِ تلك على عقله عندها سينحدرُ إلى أسفلِ السافلين، ولكي يحاول أنْ يُحسّنَ من صورته سيلجأ إلى أنْ يتشبّثُ بحبالِ المُراوغة وتزييفِ الحقائق؛ ليصعدَ على أكتافِ التأريخ الزائفِ التي كتبها على صفحات الخديعة. إنَّ هذا الإعلامَ الزائفَ لا يستطيعُ أنْ يمدَّ جذورَه ويترسّخَ في قاعِ المُجتمع إلا إذا وجد هنالك عواملَ مُساعِدةً له، تُعينُه على نسجِ أكذوبته، وتسقيها لتكبرَ أغصانُه وتتشابكَ حتى تُظلِّلَ على الحقائقِ وتجعلَها بعيدةَ المنال، ومن تلك العواملِ الكثيرةِ نذكر عاملين: الأول: الجهل. إنَّ التاريخَ قد كُتِبَ بأقلامٍ شتّى وألوانٍ مُختلفة، حتى أنَّ أوراقه كان منها ما هو ناعمٌ جميلٌ ومنها ما هو خشنٌ مُعتِمٌ، ولكن بالنتيجةِ نجدُ هناكَ كمًّا هائلًا من أوراقٍ تكدَّست حمَلتْ بينَ طيّاتِها صورًا لعصورٍ مضتْ وأخرى ستأتي.. وللجاهل أنْ يقرأ ما بدا له من تلك السطور وقد تميل نفسه لبعضِها فتستهويه بعضُ العباراتِ المُزوَّقة إذا كان للجهلِ حظٌ منه، فإنّه لن يستطيعَ مع ذلك الجهل أنْ يميّزَ بين الحقيقي والزائف، وفي بعضِ الأحيانِ حتى الوجدان لنْ يستطيعَ أنْ يُعينَه على ذلك، إذ العلم وحدَه هو القادرُ على أنْ ينتشلَه من بِئرِ الحيرةِ إلى قِمّةِ الوضوح. لذا نجدُ أنّ الكثيرَ من المُضلِّلين وجدوا في تلك العقول التي استحوذَ عليها الجهلُ لُقمةً سائغةً في أنْ يكونوا إمّعةً معهم في سكبِ كُلِّ ما يرغبون من أكاذيب واستخدامهم للترويج إليها تحقيقًا لأهدافِهم المسمومة. الثاني: الكسل. إنَّ من أشدِّ الآفاتِ فتكًا بالإنسانِ ومُصادرةً لطاقاتِه هو الكسل، فإنَّ الحقائقَ عادةً لا تحتاجُ إلى عناءٍ كثيرٍ ولا إلى جُهدٍ بدني، وإنّما كُلُّ ما تحتاجُه هو نشاط روحي يسعى معه الإنسانُ إلى الكشفِ عن مصادرِ ما يُغذّي به عقله، فغذاءُ العقلِ أهمُّ من غذاءِ البدن، ولكن عادةً ما نجدُ البعضَ يُسلِّمُ أمره لكُلِّ من هبَّ ودب مُتحججًا بقِلّةِ الوقت؛ فتجدُه ينعقُ مع كُلِّ ناعقٍ وإن سألته عن حقيقةِ ما يتناقله من تلك الأخبار سيقول لك: هكذا وصلتني. وإنَّ علاجَ ما تقدّم هو واضحٌ جلي، فليس على من أرادَ أنْ يعلمَ الحقيقةَ سوى أنْ يضعَ رداءَ الكسلِ عن كتفيه ويُشمِّر ساعدَ الجِدِّ ليُجذِّفَ في بحرِ العلمِ وليجدَ ما يبحثُ عنه من حقائقَ مكنوزةٍ. وسنتناول محورين من هذا التضليل في مقالنا هذا: المحور الأول: التاريخ إذا ما قلّبنا صفحاتِ الماضي سنجِدُ الكثيرَ من تلك الشواهدِ التي أودتْ ببعضِ الأمم وكانتْ سببًا في انحرافِ الكثير وضياعهم، وسنذكرُ مثالين على ذلك: الأول: القضية الحسنية. يأتي إن شاء الله..

اخرى
منذ 4 سنوات
388

الإعلامُ المُزيّفُ والقضيةُ الحسنيةُ والحُسينيةُ وآثارُه في مُجتمعنا اليوم/ الحلقة الثانية

بقلم: يا مهدي أدركني المحور الأول: التاريخ إذا ما قلّبنا صفحاتِ الماضي سنجِدُ الكثيرَ من تلك الشواهد التي أودتْ ببعضِ الأممِ وكانت سببًا في انحرافِ الكثير وضياعهم، وسنذكر مثالين على ذلك: الأول: القضية الحسنية. لكُلِّ منْ أرادَ أنْ يقفَ أمامَ رمالِ البقيع بمُخيّلتِه أو إنْ كانَ محظوظًا في العالم الحقيقي سيستطيعُ أنْ يشمَّ رائحةَ الغدرِ ويرى إلى الآن سهامًا ما زالت ترشقُ قبرَ السبطِ بتُهمٍ وأباطيلَ ليس ممّن هو على خطِّ مذهبٍ مُخالفٍ لأهلِ البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) فحسب، بل وحتّى ممّن هو يدّعي التشيُّعَ والولاء للسبط المسموم. تلك السهامُ التي وضِعتْ بقوسِ التزييفِ الإعلامي وصدّقها الجاهلُ من قاصرٍ ومُقصّرٍ ليرمي بها كفناً مزّقتْه أيادي الحقد. فلنقفْ قليلًا قُربَ تلك الرمالِ الطاهرةِ ونمسك بأوراقِ التاريخ ونستلهِم من عِطرِ البقيعِ لنجعلَه دليلًا لنا نُميّزُ به الحقَّ عن الباطل، ونفتح أولَ صفحاتِ التأريخِ لنجدَ سهامًا تنهالُ علينا بكلماتٍ ذات ألفاظٍ مُتكثّرةٍ ولكنّ المعنى واحدٌ والغايةُ واحدةٌ وهي أنْ ترسمَ صورةَ الضعفِ لشخصِ الإمامِ الحسن (صلوات الله وسلامه عليه) كذبًا وبهتانًا، فقد كان لتلك الكلماتِ المسمومةِ أثرٌ في انقلابِ الجيشِ الذي أعدّه الإمامُ الحسنُ (صلوات الله وسلامه عليه) لمُحاربةِ مُعاوية، وهُنا لا بُدّ أنْ نذكرَ بعضَ الحقائقِ لنمسكَ بأطرافِ تلك السهام ونقلعها من جسدِ الحقِّ ونُضمِّدَ بعضَ الجراحات. إنَّ قضيةَ الإمامِ الحسن (سلام الله عليه) لم تكنْ وليدةَ مرحلةِ إمامتِه (صلوات الله وسلامه عليه) وإنّما لها جذور أسست لها الدولةُ الأمويةُ مُنذُ زمنِ إمامةِ الإمامِ علي بن ابي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) حيث كانت تُخطِّطُ لها لمشروعِ هدمِ العقيدة ونسفِ الإسلامِ وقلعِ جذوره.. فنجدُ أنّ مُعاويةَ أمرَ بعدمِ ذكرِ مناقبِ وفضائلِ أميرِ المؤمنين وأولاده (صلوات الله وسلامه عليهم)، بل وصلَ الأمرُ بهم إلى أنْ يكونَ لعنه (صلوات الله وسلامه عليه) جزءًا من خُطبةِ الجُمُعةِ وفريضةً على كُلِّ من صعدَ المنبرَ وألقى كلمةً، حتى وصلَ الحالُ بالأمة الضالّة أنّها تستهجنُ من قتل الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) في محرابه.. وهكذا لَعِبَ مُعاويةُ دورَ التضليلِ مُستعينًا بالإعلامِ المُزيّف ليبثَّ شائعاتِ الصُلْحِ بينه وبين الإمامِ الحسن (صلوات الله وسلامه عليه) بينَ صفوفِ جيشِ الإمام (عليه السلام) لينقادوا خلفَ تلك الأكاذيبِ نتيجةً لجهلِهم بمقامِ الإمامِ (عليه السلام)، وأنّه مُفترضُ الطاعةِ ولا يُمكِنُ لهم أنْ يُخالفوا له أمرًا، وتكاسلوا عن طلبِ الحقيقةِ وإرسالِ مبعوثٍ إلى الإمامِ (عليه السلام) ليتأكّدوا من حقيقةِ الأمر وفضّلوا الانقيادَ لأكاذيبِ مُعاويةَ ليخذلوا إمامَهم... والهدفُ من هذه الأكاذيبِ لم يكُنْ فقط لأجلِ عدمِ الدخولِ في الحربِ وإنّما كانَ أبعدَ من ذلك بكثيرٍ؛ فقد كانتِ الغايةُ هي تشويهُ صورةِ الإمامِ (سلام الله عليه) لينفضّ من حولِه شيعته، وهكذا استمرّتِ الأقلامُ بنقلِ الأكاذيبِ والتعتيمِ على الحقائقِ والفضائلِ للسيطرةِ على العقول. الثاني: القضية الحسينية. ليسَ خفيًا ما جَرى من أحداثِ الطفِّ المريرة، فهي واضحةٌ جليّةٌ للكثيرِ لذا سوفَ لن نتعرّضَ لها وإنّما سيكونُ كلامُنا في أمور ثلاثةٍ مُختصرَة: الأول: من قتلَ الإمامَ الحُسين (عليه السلام)؟ الثاني: لماذا لم يسمحْ عمرُ بن سعد للإمامِ الحُسين (عليه السلام) بإقامةِ الصلاةِ ظهيرةَ العاشر؟ الثالث: السببُ وراءَ حملِ النساءِ مع موكبِ الإمامِ الحُسين (عليه السلام).. سنُحاوِلُ أنْ نُجيبَ على هذه الأسئلة المُتقدِّمة بأجوبةٍ مُختصرة... جواب السؤال الأول: من قتلَ الإمامَ الحُسين (عليه السلام)؟ كان للتضليل الإعلامي دورٌ واضحٌ في الجوابِ عن هذه الأسئلة الثلاثة المُتقدِّمة؛ إذْ لعب على أوتارِ الحقائقِ وزيّفها حتى صدّقَ الكثيرُ -عبرَ التاريخِ- بتلك الأكاذيب ونشرها وتداولها ليتّهِمَ البريءَ ويُبرِّأَ المُتّهم، فنجِدُ مثلًا أنَّ أصابعَ الاتهامِ دومًا تُشيرُ إلى أنّ من قتلَ الإمامَ الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) هم أهلُ العراق، فهم في قفص الاتهامِ، يخشى البعضُ منهم حتّى من أنْ يرفعَ رأسه؛ ليبحثَ عن الحقيقة مُصدِّقًا ما يُقال عنه.. وتجدُ البعضَ يتوّهمُ بأنّ ما يقومُ به الآن شيعةُ العراق من إبداءِ حُزنِهم الشديد ليس إلا للتكفير عمّا قامَ به أجدادُهم من فعلٍ شنيع، لذا تجدُ بعضهم يقفُ خجِلًا أمامَ من يتجرّأ ويقول له: أنتم قتلتم الحسين (عليه السلام) والآن تبكون عليه! ولكن هذا البعض لو رفع حاجزَ الكسلِ، وبدأ يُقلِّبُ في صفحاتِ التاريخ سيجِدُ كيفَ أنّ أهلّ العراق لم يُشكِّلوا سوى نسبةٍ ضئيلةٍ من جيشِ عمر بن سعد، وهم في الحقيقةِ من الخوارج والنواصب، أما شيعةُ أهلِ البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) فقد قام الجهاز الأموي بتصفيتهم إمّا بالتهجير أو بالسجن والقتل تمهيدًا من الأمويين لهذه الواقعةِ الأليمة؛ لأنّهم كانوا على يقينٍ بأنّ شيعةَ العراق لن يتركوا إمامَهم يُقتَلَ أمامَ أعينِهم وهم يتفرّجون عليه. جواب السؤال الثاني: لماذا لم يسمحْ عمرُ بن سعد للإمامِ الحُسين (عليه السلام) بإقامةِ صلاةِ ظهيرة العاشر؟ يأتي إن شاء الله (تعالى)..

اخرى
منذ 4 سنوات
375

الإعلامُ المُزيّفُ والقضيةُ الحسنيةُ والحُسينيةُ وآثارُه في مُجتمعنا اليوم/ الحلقة الثالثة

بقلم: يا مهدي أدركني جواب السؤال الثاني: لماذا لم يسمحْ عمرُ بن سعد للإمامِ الحُسين (عليه السلام) بإقامةِ صلاةِ ظهيرة العاشر؟ قد يتساءلُ البعضُ.. كيف استطاعَ جيشُ عمر بن سعد أنْ يقتلوا تلك النُخبةَ والنجومَ الساطعةَ في يومِ العاشر وهم يدينون بدينِ الإسلام؟ كيفَ يقفُ المُسلمُ أمامَ أخيه المُسلم ليقتله بدمٍ بارد؟ كيف يرى نورَ الأنبياءِ والأولياءِ المُتجلّي في وجهِ سيّدِ الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه) ولا تتحرّكُ في داخلِه تساؤلاتٌ تُعيدُه من غفلته؟ في الحقيقةِ إنّ هناك عواملَ عديدةً أودتْ بقلوبِ هذه المجموعة وجعلتها تتحرّكُ بأجسادٍ خاويةٍ منها التعوّدُ على أكلِ الحرام وغيرها من الأمورِ التي هي ليست محلَ كلامِنا ها هُنا؛ لذا سنذكرُ العاملَ الذي يخصُّ موضوعنا، وهو الإعلامُ المُزيّف، الذي قامَ به عمر بن سعد وأسياده بتضليلِ تلك العقولِ التي كانت ترى القليلَ من النور فأطفأت تلك الشمعة الأخيرة وجعلتْها تسيرُ مُعصّبَةَ العينين في دهليزِ الخديعة.. ومن تلك الخُدَعِ أنّهم أشاعوا بأنّهم يقاتلون فئةً خرجتْ عن دينِ الإسلام؛ لذا كانَ لا بُدّ من عدمِ السماحِ للإمامِ (صلوات الله وسلامه عليه) من أنْ يُقيمَ صلاةِ الظهر يومَ العاشر، فإنّ الإذنَ له بإقامةِ الصلاةِ أمامَ جيشِ العدو يعني الكشفَ عن هويةِ أعدائهم، وأنّهم يدينون بدينِ الإسلام. جوابُ السؤال الثالث: ما السبب وراء حمل النساء مع موكبِ الإمامِ الحُسين (عليه السلام)؟ أحد الأسباب المهمة وراءَ ذلك هو الإعلام، فإنَّ الإعلامَ إمّا أن يكون مُضلِّلاً، وإمّا يكون كاشفاً عن الحقائقِ بمصداقيةٍ وشفافيةٍ ووضوحٍ... لذا نجِدُ إصرارَ الإمامِ الحُسين (صلوات الله وسلامه عليه) على أنْ تكونَ أختُه الحوراءُ زينبُ (صلوات الله وسلامه عليها) رفيقةَ ثورتِه منذُ الخطوةِ الأولى التي خرج بها من المدينةِ إلى كربلاء، بلِ المُهمّةُ الأكبرُ لها هي بعد استشهاده (صلوات الله وسلامه عليه) فقد كانَ لصوتِها الصادح بالحقِّ أثرٌ في إيقاظِ النفوسِ وقرعِ أجراسِ ضمائرها، بل تلك الأجراسُ هزّتْ عروشَ الطُغاةِ وبيّنتْ زيفَ أكاذيبِهم وحقيقةَ مُعتقداتِهم الفاسدة، وكُرهِهم البغيض لله (تعالى) المُتمثِّلُ بكُرهِهم لأهلِ بيتِ النبوّة (صلوات الله وسلامه عليهم). لذا كان من اللازمِ خروجُ تلك اللبوةِ الهاشميةِ لضرورةِ الحفاظِ على الدينِ وإعلانِ نصرِ ثورةِ الإمامِ الحسين (صلوات الله وسلامه عليه). المحور الثاني: الإعلامُ المُزيّفُ وعالمُنا المُعاصر. إنّ الواقع والتاريخَ أشبه بدائرة مُفرغة ندورُ في داخلِها لنرى الأحداثَ كأنّها شريطُ سينمائي كُلّما ينتهي يُعادُ تشغيلُه مُجدّدًا، ولكن بشخصياتٍ جديدةٍ تلعبُ نفسَ الأدوار، أمّا أنا وأنت فلنا الخيارُ في أنْ نكونَ من المُتفرِّجين الصامتين، أو أنْ نقطعَ ذلك البثّ بحروفِ العلمِ، ونبحث عن الحقائقِ لنرفعَ غمائمَ الأوهامِ عن العقول، ونوقدَ شموعَ الأملِ في النفوس. فلك أنْ تختارَ أيَّ الدورين، والأمرُ لك، وأنتَ صاحبُ القرار: *إمّا أنْ تكونَ أداةً يُسيطرُ بها العدو على عقلك أولًا، ثم على مُعتقدِك ومُجتمعِك فتكونَ أنتَ عودُ الثقاب الذي يوقِدُ فتيل الفتن.. *وإمّا أنْ تكونَ أنتَ قطرةُ الماءِ التي تُطفئ تلك الفتن بنباهتك وفطنتك. للإعلامَ في يومِنا هذا خيوطٌ عنكبوتيةٌ كثيرة ومتشابكة، تصِلُ إلى بيوتِنا وأُسَرِنا من خلالِ المواقع الاجتماعية التي من خلالها يتداولُ الناسُ الأفكارَ والكلماتِ على مُختلفِ المستوياتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والدينيةِ وما إلى ذلك، وقد تصِلُك عن طريقِ رسمٍ كاريكاتوري، أو من خلالِ خاطرةٍ، أو حتى صورٍ صامتة، ولكن بالتالي لها تأثيرٌ على عقلِك الفردي وعلى العقلِ الجمعي أيضًا. وهذا يعني أن كل من يدخل في مضمارِ هذا العالم، فقد وقعتْ على عاتقِه مسؤوليةٌ عظيمةٌ وهي إنقاذُ نفسِه وأسرته ومُجتمعِه من الخطرِ الذي يواجهُه ومُحاربة تلك الفتن والأفكار من خلالِ علمِه وعقيدته، فإمّا أنْ يُحاربَ أو يستسلمَ لتلك الخيوطِ العنكبوتيةِ؛ ليقعَ في شباكِها كالحشرةِ التي لا تستطيعُ أنْ تنقذَ حتّى نفسها. ولك بعضُ النصائحِ التي يُمكِنُ أنْ تتبعَها لكي لا تكونَ أداةً سهلةً بيدِ غيرِك، واعلمْ أنّك مُحاسبٌ على كُلِّ كلمةٍ تنشرها، أو تكونَ سببًا في الترويج لها، فهلْ لديكَ ما تُجيبُ به خالقَك يومَ لا ينفعك إلا عملك؟ ومن تلك النصائح: أولًا: إذا أردْتَ أنْ تُشاركَ غيرك رأيه دقِّقْ في تلك الكلمات، واقرأ ما تودُّ مشاركته للآخر؛ إذ قد يكونُ الطعمُ في السطرِ الأخير أو الكلمة الأخيرة. ثانيًا: تأكّدْ من مصدرِ الحديث أو الرواية؛ لأنها قد تكونُ موضوعةً فتكونَ قد شاركتِ غيرَك بالكذبِ على المعصوم. ثالثًا: لا تنشرْ ما يُثيرُ الفتنَ، ويُشوِّهُ صورةَ الحقائق. وهُنا لا بُدَّ من الإشارةِ إلى أمرٍ مهم وهو: لا تجعلْ لتلك المنشورات أثرًا بالغًا في حياتك؛ فتبثَّ ما فيها من طاقةٍ سلبيةٍ كانتْ أو إيجابية، فتنعكس على سلوكياتك، بل اسعَ إلى أنْ تُحصِّنَ نفسَك بحجابِ الايمانِ، ولا تسمحْ لتلكَ الموجاتِ السلبيةِ أنْ تؤثرَ على حياتك، وحاولْ أنْ تستلهمَ من قصصِ التاريخ، وتستفيدَ من تلك التجاربِ العظيمةِ الضخمةِ لتغلبَ أمواجَ الفتنِ فتصلَ ومن معك بقاربِ النجاةِ إلى ضِفّةِ الأمان.

اخرى
منذ 4 سنوات
387

الورقة الأخيرة...

بقلم: يا مهدي أدركني هذه آخرُ ورقةٍ سقطتْ من شهرِ صفر لينتهيَ موسمٌ ذُرِفتْ فيه الدموع واعتصرتْ فيه القلوبُ ألمًا وحزنًا تقرُبًا وزُلفةً، تطهُرًا وولاءً لآلِ الرسول ولكن! هل سنرى ماذا جرى على تلك القلوب بعدَ أنْ حلَّ بها ذلك الحُزنُ؟ أم سنخلعُها كما نخلعُ السوادَ، ونضعُها جانبًا في تلك الخِزانةِ حتى تنتظرَنا إلى عامٍ آخر قد يُقبِلُ علينا وقد نكونُ تحتَ التراب! عَبَقُ نسائمِ الأحزانِ حلّتْ فينا؛ لتُغيرنا، لا لتُبكينا... فلنُلَملِمْ أوراقَ الحُزنِ تلك، ونستلهِمُ ما فيها من إيمانٍ صادق عقيدةٍ وثباتٍ توحيدٍ ونبوّةٍ إمامةٍ ومَعادٍ إيثارٍ بالنفس... وأيُّ نفسٍ تلك؟ وقفةٌ قصيرةٌ لنُراجِعَ فيها ماذا صنعَ الشوقُ والحنينُ والألمُ والحُزنُ العميق؟ هل سنُعاهِدُ على التغيير ونكون أهلًا لتلك التضحياتِ العظيمة؟ نواظبُ على الصلاة، ونُحييها، أم نُضيّعُها كما ضيّعها بنو أمية؟ ماذا عن الحجاب؟ هل سنتمسكُ بتلك العباءةِ التي تلقّتِ السياطَ والحرقَ والبُكاءَ والدماءَ، ولكنّها لم تمِلْ عن تلك الرؤوسِ الشامخاتِ، بل كانتْ تمنعُ نسماتِ الهواء من أنْ ترسمَ تفاصيلَ النساء؟ هل سنكونُ أحرارًا كالحُرِّ، ونُخيّرُ أنفسَنا بين الجنةِ والنار كُلّما وقفْنا على مُفترقِ الطريق، فنختار طريق الجنة؟ أم سترجعُ حواسُنا إلى سُباتِها العميق لتكونَ عبارةً عن آلاتٍ للشهوات والملذّات تقودُنا كالبهائمِ، نستمعُ لصوتِها وتخرسُ ألسنة الحقِّ مرةً أخرى! هل سننفِضُ رمالَ كربلاء ورمادَ الخيام وننسى طعمَ السمِّ والسهام؟ مهلًا يا أيتها النفس، هُنا رُفِعَتِ الرؤوس قُطِّعَتِ الكفوف وحُزَّ النحر هنا جرى سمٌ زُعاف مزّقَ أكبادَ الأئمةِ الأطهار ومن قبلِها جرى في جسدِ الرسول (صلاةٌ من الله عليه وعلى الآل) ليقتلوا شريعةَ السماء فلا تكوني شوكةً تزيدُ من عُمقِ الجِراح بل طيّبي جراحاتِ قائمٍ يبكي على جدِّه دمًا احملي سلاحًا من أرضِ نينوى، وقاتلي بشجاعةٍ حتى وإنْ كان العدوُّ أنتِ فقد قتل الأصحابُ أنفسَهم مرارًا لتكونَ جاهزةً للنزالِ الأخير... الذي فيه ارتفعتْ لتخلُدَ في سماءِ المجدِ والسؤددِ، وتنالَ الفلاحَ في جنةٍ يصبو لها كُلُّ مؤمنٍ.. جنةُ القُربِ حيثُ الأقمار تجتمعُ بالشموس بلا كسوف ولا خسوف

اخرى
منذ سنة
6433