Profile Image

شفاء طارق الشمري

حكاية يوسفنا

بقلم: شفاء طارق الشمري سألت الأحجار هناك: ما حال بقيع الأحزان؟ قالت: من شدة ألمه بكينا، ومن غزارة دموعه ذبُلنا... ومن حرقة حرارة آلام قلبه الشجي خجلت شمسنا...ومن ظلام عتمة أحزانه أشعلنا شموع الانتظار... ومن طول الغياب تعبنا... ومن كلام العتاب عليه تألمنا... ومن جروح قلبه صرنا له ضمادًا… تراه يجمع التراب ويقبّله، فهو يعلم مكانها، لكنه لا يُظهرُه... لديه صخرة نحت عليها كلمات من دموعه التي امتزجت مع دمائها... خطت بأحرف ولائه وحبه لها، إنه عاشق هذا الزمان الذي فقد معشوقته... تراه يجلس عند قبرها الذي أخفي عن الأعين لكنه لم يخف على القلوب... وردة حمراء، جمعت كل آلامها ودمها الزكي، رغم أنها وردة حزينة ومليئة بالدماء، لكن أشواك كلماتها ما زالت تخز أعداءها، قد ارتسمت كلماتها بألوان العفة والحياء، كيف لا وهي الزهراء! إلى الآن صاحب الحب يحتفظ بوردة الأحزان التي امتلأت بعبق الحب الفاطمي ورائحة قبرها الشريف، أظنها وردة من دموع علي (عليه السلام) الحمراء، التي وضعها على قبرها قبل مئات السنين، لكن يوسفنا ما زال يحتفظ بها، فهو يشم فيها عبقاً من قصة حب علي والزهراء… إلى الآن يوسفنا حينما يقول: السلام عليك يا فاطمة الزهراء، تجري على خديه أنهر من الدموع... يوسفنا في هذه الحكاية عند كل باب يعتصر قلبه المفجوع؛ فهو يرى ذلك المنظر الذي قام به أولئك الأعداء... إن كان يعقوب ابيضت عيناه من غياب يوسفه، فهنا يوسف الزهراء احمرت عيناه بألم الجراح، حكايته مع الزهراء طويلة لا تصفها أقلام الدموع ولا حبر العيون... فهو يقف كجده أمير المؤمنين حين يقول: مالي وقفت على القبور مسلمًا***قبر الحبيب فلم يرد جوابي ختام حكاية يوسف الزهراء... إننا لا نسمع من هذا العاشق سوى الآهات... العاشق الذي، أخرته الدهور، وها هو بانتظار الظهور. يا مولاي اطفئ نار قلب الزهراء بمجيئك... فحتى يوسف يعقوب لم يغب كهذا الغياب... أقدم علينا يا بن مكسورة الظلع... وأظهر قبرها وضع اسمها فوق أعلى القمم. حتى يعرفوا قبرها، فقد التهب القلب بنار غيابك، يا يوسف الزهراء.

اخرى
منذ 4 سنوات
607

في رحاب دعاء الصباح

بقلم: شفاء طارق الشمري إن روعة البلاغة أنارت أسطر كتب العبادة، وارتقت بروح المتعبد إلى سماء الملكوت، فلا شك أنّ لمثل هذه الكلمات أثراً في القلوب والعقول والنفوس... عندما تبدأ الصباح بكلماته، ستشعر بكمية من التروية تروي النفس المتعطشة لكلمات العبادة... القمر يغادر بصمت… الشمس تشرق بهدوء، كي لا تقطع مناجاته العذبة… قطرات الندى تستمع لتلك الكلمات الشجية والرائعة... ستتساءل ما بها تلك الكلمات، هل غير حروفنا أو غير كلامنا؟ نعم، إنها غير حروفنا؛ أحرف تفهمها الملائكة... هو من كلام أهل السماء... إن قرأنا الدعاء بهدوء وانتبهنا إلى تلك الكلمات البلاغية العبادية التي خرجت من شفاهه الزكية ونطق بها لسانه الطاهر... إن فكّرنا بكل كلمة أشار لها... لفهمنا بلاغته وعرفنا رسالته، وسنبحر الآن في بحر من البلاغة ونأخذ من هذا البحر قطرة لنفهم معاني هذه القطرة التي سنغرق فيها تلك القطرة البلاغية... هدأت جميع الكائنات لتصغي إلى أمير العباد… الشمس تجري لمستقر لها، والأزهار تتفتح بهدوء والطيور تصغي ونسمات الهواء العذبة تنساب برفق رفع هو يديه بالدعاء قائلًا: (اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه وسرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه واتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه...) _"اللهم يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلجه" أول جملة من دعائه (عليه السلام)، هل قرأناها بتفكر؟ هل فكرنا ماذا يقصد بـ"دلع"؟ ماذا يقصد بـ"لسان الصباح"؟ ما هو تبلجه وكيف نطق بتبلجه؟ المعنى التفسيري والبلاغي لهذا المقطع: دلع: أظهر، أخرج، أطلع، أبان. لسان الصباح: تكلم الصباح بلسانه يكون بغياب القمر وشروق الشمس. نطق تبلجه: أنطق الصباح بنوره وضيائه... لذا يمكن القول: إنّ الدعاء كان تحت مثل هذا التفسير: (اللهم يا من أظهر وأخرج الضوء وأشرق الشمس وأذهب الليل المظلم وجعل للصباح لسانًا ينطق به من خلال حدوث هذه التغييرات وأنطقه بضوء ونور وشورق الشمس فبدأ يوم جديد). _"وسرح قطع الليل المظلم بغياهب تلجلجه" سرح اسرح: بمعنى فك قيده، كما يقال للمسجون: أُطلق سراحه، أي أطلقت حريته، فيمكن القول بأن سرح بمعنى (فك) قطع الليل: بمعنى إنّه فك الليل بحركة وجعله يتقطّع إلى قطع كما نراه نحن الآن، نرى الليل لا يذهب في وقت واحد، لا يختفي لون الليل دفعة واحدة، إنما بشكل متقطع أو متسلسل. الغياهب: مفردها غيهب بمعني الظلمة، غيهب الليل بمعنى ظلمة الليل شدة سواده. تلجلجه: بمعنى المتردد بكلماته وخوف لسانه من التكلم، دائم التردد، كما يقال للبعض: لا تكن متلجلجًا، أي لا تكن مترددًا. يمكن أن نفسر العبارة هكذا: (واسرح قطع الليل وحركته بشكل متقطع ذلك الليل المظلم الحالك بالسواد والعتمة) _(وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه ) أتقن: أحكم ..أبدع ..أبرع ..أجاد . الفلك: هي الأمور السماوية والفلكية، وكل ما يتعلق بالشمس والقمر والكواكب والنجوم والنيازك. تبرجه: بمعنى بزينته بجماله. إذاً يمكن القول: إنّ الإمام (عليه السلام) يُخاطب الله (عز وجل): (إلهي رب العزة والجلال، يا من أتقنت بإبداع صنع الأفلاك والنجوم والكواكب بمقادير محسوبة ومقدرة ومعلومة، بأحسن صورة وجمّلْتها وجعلتها لوحة رائعة تبين جمال صنعك)... _(وشعشع ضياء الشمس بنور تاججه) شعشع: امتزج، اختلط، انمزج. التأجج: إحراق النار واشتعالها وارتفاع لهبها الحارق. فالمعنى: أنّ الله قد مزج ضوء الشمس الساطع مع النور الملتهب من النار الحارقة وكون تلك الشمس التي هي كتلة من النور والضوء والحرارة. _(يامن دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته) دل: الدلالة والإرشاد إلى أمر ما. التنزه: الابتعاد عن كل نقص وعيب. يمكن أن نفسر: (أن الله (عز وجل) قد دل على وجوده وعلى ذاته في كل ما خلقه وذلك ردًا على كل ملحد ومتجبّر يشكك في الله وأيضًا تنزه الله (جل وعلا) عن كل مخلوقاته فله العزة والعظمة). _(وجلّ عن ملاءمة كيفيّاته) بمعنى أن الله (عز وجل) قد جل وارتفع وارتقى على أن يلائم أحدًا من مخلوقاته. _(يا من قرب من خواطر الظّنون): إنّ الله ترفّع وتعالى عن أن يكون قريبًا من العباد والمخلوقات لكنه بقي قريبًا من القلوب والنفوس ويعلم ما يخفون في الصدور وما تحمله القلوب. _(وبَعُد عن ملاحظة العيون) إنّ الله قريب من العباد يجيب الدعوات ويسمع ما يُكلمه به العباد لكنه بعيد عن العيون والأنظار لا تبصره العين بل القلب. _(وعَلِمَ بما كان قبل أن يكون) إنّ الله يعلم بكل أمر ويعلم بحدوث الأمر قبل حدوثه وتكوينه ويعلم بما كان وما يكون ولا يعلم الغيب إلا هو. من خلال هذه المقاطع القليلة نجد قمة البلاغة... كيف لا وهي كلمات الأمير الكرار... عند افتتاح الصباح بهذه الكلمات الرائعة سنجد لباقي اليوم أثرًا كبيرًا، فلكلمات المعصوم رونق يختلف عن أي كلام نقرأه أو نسمعه.

اخرى
منذ 4 سنوات
3601

الشُعلةُ الوهّاجة

بقلم: شفاء طارق الشمري لقد كانتِ السيدةُ زينب (عليها السلام) ولا زالتِ الشعلة الوهّاجة في طريق من رفعوا الحقَّ ودحضوا الباطل، كيف لا وهي التي قادت الثورة بعد الإمام الحسين (عليه السلام) وأكملتها، بعد أنْ تعددت أدوارها في كربلاء وشهدت لها الخُطَب التي ألقتها بدورِها وفلسفة هذا الدور في القضية الحسينية.. لكربلاء آلاف الحكايات، كل حكاية منها صنعت منهجًا قيّمًا أبحر فيه العلماء، فمن أين تبدأ حكاياتها عن العقيلة (عليها السلام)؟ هل تبدأها بكونها أمًّا ترى أولادها يسقطون واحدًا تلو الآخر؟ أو كونها أختًا ترى كافلها وحاميها وابن أبيها مقطوع الكفين؟ هل تُسرع إليه، أو تُسنِد أخاها الذي تأوّه قائلًا: الآن انكسر ظهري وشمُت بي عدوي؟ أو تواسي أمًّا قُدِّمَ إليها ابنها ذو الستة أشهر منحورًا؟ أو تُرجِع ابن أخيها العليل إلى الخيمة حفاظًا على الإمامة؟ أو تهرول لتمنع اللعين الذي يُريد نحرَ أخيها الإمام الحسين؟ أو تحمي أطفالًا صغارًا من نار الخيام؟ أو ترُدّ السوط بيدها وتُمسك عباءتها باليد الأخرى؟ وفي نهاية المطاف تسألها رقية (عليها السلام): (عمتي أين أبي؟).. هذه هي السيدة زينب (عليها السلام) إنْ كنت تجهلها.. الشُعلةُ التي بقيت مضيئة إلى يومنا هذا، يخافُ الأعداء من سماع ذكر اسمها، ويحاولون بالحرب الناعمة أنْ يقضوا على كلِّ فتاةٍ اتخذت منها قدوةً رافعين شعار (اقتلوا كلَّ زينب!) بعد هذه الحكايات المريرة التي روى منها التاريخ الجزء البسيط، وبعد رحلةِ ألمٍ ودموع تُغادر السيدة زينب (عليها السلام) الحياة غريبةً ما من أحدٍ يحملُ نعشها، ومن سيحمل نعشها، وهي قد تركت حسينًا بكربلاء وعباسًا على الصحراء؟! تُغادرُ بصمتٍ فتعرجُ روحُها الطاهرة إلى السماء فتُفتحُ لها أبواب السماء ويستقبلها الملكان ليأخذوا بيدها، فتلقى هناك من وعدتهم أنَّها ستلحق بهم بسرعة.. تذهبُ للإمام الحسين قائلة: ها أنا قادمةٌ إليك في ركبِ العائدين، حاملة معي أشواقًا وحنينًا من أناسٍ مُحبين ومتمنين العودة منك؛ لكي يكونوا لك ناصرين.... ها أنا أحملُ إليك دموعَ الآلاف والملايين... فُجِعوا بمصيبتك أيُّها السيد الجليل .... وأنا فيما بينهم أطوف في ميادينَ الحُبِّ، أحملُ رسائلهم، رسائل من عشاقك يا حُسين... وكأنّ بالإمام الحسين (عليه السلام) يُجيب: يا شُعلة أنارت أسطرَ التاريخ ... أقبلي إلينا يا رفيقةَ دربِ العاشقين .. إنَّ أهل الجنةِ اليوم إليك مشتاقون .. وهكذا رحلت السيدة زينب (عليها السلام) بعد أنْ رسمت بقلمِ الحريةِ والفداء أروعَ المعاني التي تُعبِّر عن الإيثار والإباء والإنسانية .. فكانت حقًا "الشعلة الوهّاجة" في طريق العالمين .. كما كانت مريم العذراء (عليها السلام) آيةً للعالمين…

اخرى
منذ 4 سنوات
644

شمعــــــة

بقلم: شفاء طارق الشمري في ليلةٍ باردة، وأصواتُ قطراتِ المطر تقرعُ أبواب النوافذ، لا يوجد ضوء، لا أكاد أرى شيئًا، أخاف أنْ أسقط ... أين هي الشمعة؟ وضعتُها هُنا بالأمس ليومٍ مثل هذا، أخشى أنْ يكون أحد الأولاد قد أخذها وأضاعها .. أخذتْ تحذرُ في المسير مخافةَ أنْ تكسرَ شيئًا، كأنَّ هناك نورًا مُتوهجًا يصدرُ من غرفة الجلوس؟! هكذا تساءلتْ ... فتابعت المسير حتى وصلت إلى الغرفة، وجدت ابنتها قد أشعلتْ الشمعة وأوقدت الجمرَ في المدفأة وقد وضعت الحساء عليها ليسخن ... ابتسمت ابتسامة رضا عن هذه الابنة التي طالما كانت رائعةً، فالابنة الكبرى في المنزل بمثابة الأمّ التي تُدير أمور المنزل ... نادت زهراء أولادها حسناً وزينب وحسيناً، وطلبت منهم غسل أيديهم للجلوس معًا، فلبّى الجميع .. وبعدما أخذوا أماكنهم في غرفة الجلوس قالت لهم: أولادي الأعزاء لقد قامت أختكم فاطمة بإحضار العشاء وأوقدت لكم المدفأة وهيّأت لكم هذا الجو الدافئ والحنون فهيا نشكرها. حسن ، زينب ،حسين بصوت واحد: شكرًا يا فاطمة. ابتسمت فاطمة ابتسامتها الهادئة . وبعدما انتهى الجميع من تناول العشاء، قال حسن: أمّي لماذا أنتِ وفاطمة تتشحان بالسواد؟ قاطعته زينب: أمّي، أمّي .. أودُ أنْ أسالكِ سؤالًا ... حسين: أنا أيضًا... حسن: لكنّي أول من سألت دعوها تُجيبني... زهراء: اهدأوا اهدأوا، سأجيبكم واحدًا تلو الآخر. اسمعوني يا أولاد: هل ترون هذه الشمعة؟ كم هي جميلة وتتوهج بنورٍ رائع، إنَّها تحترقُ وتدمعُ من أجلِ أنْ تُنيرَ هذا المكان، لتنيرَ دروبنا المُظلمة، فحينما نعيش بالظلام ونفتقدُ هذا النور تُرى كيف سيُصبحُ حالنا؟ كيف نستطيع أنْ نُديرَ شؤون وحياتنا؟ ومن منّا يستطيع أنْ يعيش في الظلام؟ ... لا أحد، وهذا مؤكد. كذلك هم الأئمة (عليهم السلام)، فقد تحملوا الكثير من المشاق والتعب من أجلِ حفظِ وصيانةِ الدين والعفة، تحمّلوا العناء واكتووا بنار الظلم والسموم حيثُ كان الأعداءُ يقومون بكلِّ ما يؤذيهم لكنهم (عليهم السلام) مع هذا صبروا واستمروا بالعطاء كالشمعةِ التي تُنير دربَ الإنسانية والحياة، فإنْ بدأنا من الرسول (صلى الله عليه وآله) فقد تحمَّل الكثير من الأذى لنشر الإسلام والدعوة حتى قال (ما أوذي نبيٌّ بمثل ما أوذيت)، والإمام علي (عليه السلام) الذي غُصِبَ حقُّه في الخلافةِ وتألم وعانى من المنافقين مُدّعي الزُهد والتقوى، والسيدة الزهراء التي أحرقوا دارها وأسقطوا جنينها وسلبوا حقها في فدك، ليصل الدور إلى الأبناء كي يتحملوا عبء مسؤولية الحفاظ على الإسلام والدين، فتقطّع كبد الإمام الحسن السبط الأول (عليه السلام) في سبيل ذلك بالسمِّ، وأما الإمام الحسين (عليه السلام) فهو الأكثر مظلوميةً؛ إذْ لم يشهد التاريخ لأحدٍ مصيبةً ورزيةً كرزيّته (عليه السلام)، وامتدتِ المظلومية للرسالة الإسلامية مع امتداد السُلالة العطرة حتى يومنا هذا، حيث غيبة صاحب الزمان إمامنا المهدي (عجل الله فرجه) الذي يعيش بيننا غريبًا مظلومًا. وحتى النساء من أهل بيت العترة (عليهن السلام) لم يسلمن من الظلم والجور وقد شهدن المصائب والرزايا، فها هي عقيلة بني هاشم السيدة زينب (عليها السلام) التي لم يشاهدْ أحدٌ لها ظلًا، ولم يَسمعْ لها صوتًا، تُجَرُّ سبيةً من بلدٍ إلى بلد، هي وبنات الرسالة يتصفح وجوههن الغريب والقريب، ليس لهن من حُماتهن وليٌّ ولا نصير. فحريٌ بنا اليوم أنْ نقتديَ بهم، وأنتم يا أولادي لا يجبُ فقط أنْ تحملوا أسماءهم، بل يجب عليكم أنْ تحملوا أخلاقهم، فأنتم تحملون أسماءً مُقدسة، هذهِ الأسماءُ كانت ولا زالت تُرعبُ الأعداء، فهم يرون بكل اسم من هذه الأسماء جيشًا... وعلى كلِّ حال، فإنَّ سبب ارتدائي للثياب السوداء أنا وفاطمة؛ لكون هذه الليلة ليلةَ وفاةِ سيدة الوفاء سيدة الألم العقيلة زينب (عليها السلام)، وسأذكر لكم قصة عنها... روي عن يحيى المازني أنَّه قال: كنتُ في جوار أمير المؤمنين (عليه السلام) في المدينة مدةً مديدة، وبالقربِ من البيتِ الذي تسكنه زينب (عليها السلام) ابنته، فلا واللهِ ما رأيتُ لها شخصًا، ولا سمعتُ لها صوتًا، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارةِ جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) تخرج ليلًا، والحسن (عليه السلام) عن يمينها، والحسين (عليه السلام) عن شمالها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) أمامها، فإذا قَرُبت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن (عليه السلام) مرة عن ذلك؟ فقال: أخشى أنْ ينظرَ أحدٌ إلى شخصِ أختك زينب. (العوالم ج 11 ص 955). كانت السيدة زينب تحمل الروح المحمدية، والشجاعة العلوية، والبلاغة الفاطمية، وقد كانت علاوةً على ذلك أبرز مصاديق العفة والورع والتقوى بعد أمّها السيدة الزهراء (عليها السلام)، كما كانت سندًا لإخوتها في كربلاء، وفي حمل الرسالة وإيصال صوت الحق ودحر كلمة الباطل، فكانت حقًا شمعةً مقتبسةَ من بيت النبوة والأمانة، وهذه الشمعة أنارت الحياة وشقت نهج الظلم وأنارت طريق الحق ليسلكه الناس بعد ما ارتدوا عن معرفة الحقيقة. لقد كانت هذه الشمعة تحترقُ وتتألم لتوصل صوتها، لتنشر نورها؛ لكي تهدي به الأمم حتى أتت مثل هذه الليلة الحزينة حيث أُطفئت هذه الشمعة في ظاهرها لكن بقي نورها مُشعًا إلى يومنا هذا، شعَّت وأنارت طريقًا مهّده لها أخوها الحسين (عليه السلام)، طريق الأحرار الذين لا يهابون الموت أبدًا .. طريق الثوار .. بعد ذلك جمعت الأمُّ أولادها وتوجهوا لزيارة السيدة زينب (عليها السلام) عن بعدٍ في هذه الليلة. فسلام الله عليكِ يوم ولدتِ ويوم استشهدتِ ويوم تبعثين حيّةً...

اخرى
منذ 4 سنوات
752

خاتمٌ من دموع

بقلم: شفاء طارق الشمري لم يكن خاتمُه من فضة، بل كان من دموعه الفضية التي كانت تسقط من عينيه البُنيتين، لقد صنع خاتمًا من دموع، وجعله خاتم الحياة، فكُلما نظر إليه يردد كلماتٍ لا يفهمها إلا العاشقون في السماء، إنَّ لذلك الخاتم ألف حكايةٍ وحكاية، كلُّ دمعةٍ سقطت عليه تروي لك حكاية.. شدَّ انتباهها ذلك الخاتم وكيفية تعامله معه؛ إذ كلما أراد ارتداءه أو خلعه تمتم بعبارةٍ ما، وقد تكرر هذا الموقف عنده كثيرًا، وفي كلِّ مرةٍ يقرع أبواب فضولها.. كانت كثيرًا ما تتساءل: ماذا يقول هذا العاشق لخاتمه الذي أحبه أكثر من كلِّ جواهر الدنيا؟ في أحد الأيام بينما كانت تتهيأ لمجلس العزاء الذي تُقيمه كلَّ عامٍ في ذكرى وفاةِ السيدةِ زينب (عليها السلام) وإذا به يطرق الباب، فتحت له الباب واستقبلته وجلسا في حديقة المنزل... هي: أيُّها الفارس الذي شقَّ طريقه نحو السماء ليصل إلى مراتب شهادة العشق .. هو: أرى لأميرتي حديثًا طويلًا وأسئلة تُحيّرها. هي: نعم، أودُّ أنْ أسأل لكن هل أسألك أنت أو خاتمك هذا؟ هو: ماذا؟ هي: ماذا تُتمتم مع هذا الخاتم عند نظرك إليه أو ارتدائك أو خلعك له؟! ابتسم ذلك الفارس ابتسامة مقاتلٍ مُهاجرٍ: عند ارتدائي وخلعي لهذا الخاتم أقول: (السلام عليك يا أبا عبد الله، اللهم العن من ظلمه) هي وقد بانت على وجهها علامات الاستغراب: ولماذا ؟! هو: لأنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) بعدما قُتِل وصُرِع على صحراء الغربة وعلى رمالٍ حارقة سلبوه ثيابه وكلَّ ما كان يرتدي حتى خاتمه، وورد في الروايات الشريفة أنَّ "بجدل بن سليم الكلبيّ" لعنه الله لم يجد شيئًا يسلبه من جسدِ الإمام الحسين (عليه السلام) غير الخاتم الذي كان في خنصره، وبعد فشله بمحاولاتٍ متكررةٍ لانتزاع الخاتم، تناول سيفًا إلى جانبه، وصار يحزُّ بها إصبع الحسين (عليه السلام) حتى فصل الإصبعَ وأخذ الخاتم. وأنا يا أميرتي منذُ أنْ سمعتُ بهذه الحادثة كُلّما رأيتُ خاتمًا أو ارتديتُ أو خلعتُ خاتمًا أتذكر هذه القصة فأُسلِّم على الإمام الحسين (عليه السلام).. ولهذا الخاتم حكاية، فقد قدّمه إلي صديقي الشهيد قبل أنْ يستشهد وقال: إنَّ هذا الخاتم كان معه في صلواته ورحلة دعائه وكان كثيرًا ما يبتل بدموع مناجاته وأنا منذُ ذلك الحين أرتدي هذا الخاتم الذي امتزج بدموع الشهيد وقصة كربلاء.. اعلمي أيتها العزيزة، أنَّ أهلَ البيت (عليهم السلام) ظُلِموا في كربلاء، وقصة خاتم الإمام الحسين (عليه السلام) قطرةٌ في بحر الأحداث التي جرت فيها، فلا معركة كمعركة كربلاء، ولا حادثة كحادثة الطف، إنَّ أيَّ إنسانٍ يسمعُ بقصص كربلاء لا يصدق، فما بالكِ بمن يرى ويشاهد تلك الحوادث؟! أقصد السيدة زينب (عليها السلام) التي شاهدت رؤوس خير الناس وأصدقهم مرفوعةً على رماح الغدر منحورةً بسيوف الغدر، لقد تحمّلت السيدة عبئًا ثقيلًا، إذْ أخذت على عاتقها تحمل طعنات كلام الشاميين وهي تصفها بالخارجية وتسبها، كما تحملت مسؤولية الحفاظ على حياة الإمام السجاد (عليه السلام) والنساء والأطفال، وكلُّ ذلك في كفةٍ وتحملها عبءَ الرسالة وإيصالها إلى العالم أجمع في كفةٍ أخرى، إذ ترفع صوتها الذي يصدحُ في سماء الحرية أنْ (قُتِلَ الحُسين مظلومًا)، إنَّ لكربلاءَ وقفاتُ تأملٍ أبكت التاريخ والعظماء. رفع رأسه وإذا به يشاهد أثر كلماته على وجدانها الذي تجسّد في عينيها إذ اغرورقتا بالدموع حتى احمرتا.. فأكمل قائلًا: إنَّ الذي أقام الدين وحفظ القرآن الكريم هو سيد الشهداء (عليه السلام) بما قدّمه من تضحياتٍ جسامٍ، ورغم كلِّ ذلك نرى امرأةً شامخةً هزّت عروش الظالمين وأوقعت بعروشهم وأرعبت سطوتهم، تُرى أيّ أختٍ تتحمل أنْ تسمع أخاها يُناجي الله (تعالى) بصوتٍ حزين يُفتِّت الحجر ويفلق الجبل قائلًا: سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقّــًا وجاهد مسلمـــــًا وواسى الرجالَ الصـالحين بنفسـه وفارق مثبورًا وخالــف مجرمــًـا فإنْ عشـتُ لم أندمْ وإنْ متّ لم أُلَمْ كفى بـــك موتـــًا أنْ تُذلّ وتُرغمًا أم أيّ أختٍ تتحمل أنْ يُقدمَ لها أخوها رضيعًا لم يتجاوز الستة أشهر مضمخًا بالدماء ليكون أصغرَ قربانٍ إلى السماء. هي: سلامُ اللهَ عليك يا أبا عبد الله. هو: يا عزيزتي هل ستكون لكِ قدوةً بالعقيلةِ (عليها السلام)؟ وهل ستواسينها إنْ أحضروني شهيدًا يومًا؟ هي: وكيف بعدما سمعت قصص عشق الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام)، هل أتجرأ أنْ أجزع؟ هو: سألتحق غدًا يا رفيقتي وادعي لي أنْ أحظى هذه المرة بالالتحاق بركب العشق الحسيني. هي وقد سالت دموعها: وداعًا يا رفيقي، لكن عدني أنْ تلتقيني عند جنة الإمام الحسين (عليه السلام) وتأخذ بيدي هناك. هو: أعدُكِ يا رفيقتي، ولن يكون هناك وداع بيننا، فالشهداء أحياءٌ يرزقون وسأكونُ معكِ يا رفيقتي حتى نلتقي. هي: أبلغ سيدي الحسين مني السلام إنْ التقيته في جنة الفردوس. هو: سأبلغه سلامكِ، لقد اجتزتِ أبواب الزمن لتتحدثي بحديث الشهداء. هي: أنت من علّمني حديث أهل السماء. قام الرفيق وودّع رفيقته ووصل عند الباب ونظر إليها آخر نظرة وكأنّه يعلمُ أنَّه آخر لقاء بينهما وكان فعلًا هذا الوداع الأخير الذي ختمه كلام العيون. ومضتِ الليالي الحزينة بفراق الحبيب، واشتدّ الحزن عليها بحلول أيام شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام). وفي صباح يوم حزين على الجميع صباح الخامس والعشرين من شهر رجب سمعت أصواتًا وضجيجًا في الشارع فعلمت أنَّ الحبيب قد قدِمَ ليُخبرها أنَّه قد أبلغ سلامها للإمام الحسين (عليه السلام)، نظرت إلى نعشه وابتسمت: كفاني فخرًا أنْ أكون زوجةَ رجلٍ اتخذ من الحسين (عليه السلام) أسوةً.. هكذا كانت تردد في قلبها . تقدّم إليها أحد أصدقائه: عظّم اللهُ لكِ الأجر، لقد كان يقول: إنَّه سيبلغ سلامكِ وقد أبلغه، وترك لك عندي هذه الورقة وهذا الخاتم. نظرت إلى الخاتم فابتلَّ الخاتم بدموعها ورددت في قلبها: (السلام عليك يا أبا عبد الله). فتحت الورقة لتقرأ ما كتب: (أيّتُها الحبيبة لا أريدُ أنْ أسمع آهاتكِ، تصبّري ولا تجزعي وتذكري حديثنا عن العقيلة، وأبقي هذا الخاتم في يديكِ ولا تخلعيه حتى نلتقي ... عندما كنتُ أرى بقلبي الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يستقبل الشهداء أقولُ: ليس هناك ثمة ما يدفعنا لأن نبقى أحياء، وأنا لا أرى الموت إلا سعادةً ..لقد غلى في عروقي حبُّ الشهادة وحب الدفاع عن وطني فأنا عندما أرى النساء والأطفال يهاجرون بيوتهم وهم يتصارخون بسبب أناسٍ، من الجُرم في حق الإنسانية أن ننسبهم إلى الناس، عندما أرى تلك النساء والأطفال أعود إلى كربلاء الحُسين (عليه السلام)؛ لذا عليكِ أنْ تفخري بي وترفعي رأسكِ، ولا تبكي يا عزيزتي فغدًا سنلتقي.. وداعًا يا رفيقتي والمُلتقى عند الحسين (عليه السلام)).

اخرى
منذ 4 سنوات
1189

إيمانُ القلوب (فتوى التكامل)

بقلم: شفاء طارق الشمري رُتلت آيات الحب معلنةً وقوف قافلة العشق الحسيني، تنتظرُ أولئك العاشقين الذين تركوا الدنيا وراء ظهورهم مُرددين: "على الدنيا بعدك العفا يا أبا عبد الله"، كانوا ينظرون إلى الدنيا أنَّها دارُ فناءٍ وليس بقاء، كانوا يرددون دومًا: "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزًا عظيمًا". كانت هذه الجملة تتردد على قلوبهم قبل شفاههم، وعندما جاءت إليهم الفرصة لم يترددوا في رفع أصواتهم وسلاحهم لمواجهة الأعداء الذين أرادوا تحطيم كلمة الإنسانية.. إنَّهم أبناء المرجعية... لم يترددوا لحظةً واحدةً في الدفاع عن دينهم، ووطنهم، وأعراضهم حينما ارتفع صوت التاريخ بالجهاد الكفائي في اللحظة نفسها، وقف أبطالنا مُطلِقين الدنيا لتستقبلهم الجنة عروساً. لا بد لنا أن نُسطر بأقلامنا تلك القصص الخالدة التي ما إنْ تسمع عنها حتى تتسابق الدموع من عينيك هطولًا، ولا بُدَّ أنْ نذكر قصةً رائعةً وحقًا علينا أنْ نذكر قصص هؤلاء المجاهدين... بعد مرور ما يقارب خمس سنوات من الذهاب والعودة لخطبتها، وأخيرًا تمت الموافقة ، ورغم أنَّه كان متلهفًا للاقتران بها، لكنّه ما إنْ سمع صوت الجهاد حتى غادر إلى ساحات القتال، لكنه لم يعد شهيدًا بل عاد مصابًا حيث أُصيب في تاريخ 31-7 في منطقة الخالدية. كان جرحه عميقًا واضطروا لبتر كلتا ساقيه، هنا تُليت آيات الحزن والأسى من الأهل وقلب الأم، لكن هل هو حزين؟ لا، فهو يرى تينك الساقين فداءً للوطن، فداءً لتلك القافلة الحسينية... كان لا بد له من أنْ يوصل سلامه للفتاة وأهلها، ويُقدم اعتذاره لهم لأنه لن يستطع الزواج بها لما تسبب له من عجز... حقًّا دموعي لم تتوقف عند سماعي القصة أو عند كتابتي إيّاها؛ لأننا بالفعل ببلدٍ عرفوا الحسين (عليه السلام)، ببلدٍ لم يكنِ الحسين (عليه السلام) لهم إمامًا فقط، بل كان في كلِّ بيتٍ. ولقد أثبت هذا المجاهد وهذه المجاهدة ــ نعم، أقول عنها مجاهدةً؛ لأنها جاهدت قلبها، وتصبّرت على جرعة ذهابه إلى الساحات وألم غيابه وتوقُع شهادته إضافةً إلى أنَّها تحملّت أن يعود بهذه الحال ــ أننا حقًّا في بلدٍ فيه رجالٌ غيارى، ونساءٌ عرفن معنى التضحية... لقد كانت المفاجأة أنَّ الفتاة وأهلها أصروا على إتمام مراسيم الخطبة والزواج، وتمَّ عقد قرانهما في المستشفى! حقًّا الحروف عاجزةٌ؛ لأنَّهما وبالفعل قد تخطيا حدود الدنيا ليُحلِّقوا في سماء ملكوت الإمام الحسين (عليه السلام) هكذا كانا كالملاكين في رحاب الإيمان. وهذا ما استطعتُ تسطيره من كلماتٍ ما سطرتُها إلا لتصل إلى قلبِ كلِّ شخصٍ يقرأها فيرتقي بها ويعرف حقًا أنَّ هناك أناسًا قاتلوا واستشهدوا حفاظًا على عرضه، وليبقى حيًا ويدرس ويتعلم.. كلماتٌ سطرتها وأشعر أنّي مقصرة، فمن أنا لأكتب في هؤلاء المجاهدين أو الشهداء، فحقًّا لم ولن أستطيع أنْ أوفي بهذه الكلمات حق أُناسٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه. نسأل الله (تعالى) أنْ يوفقهما في حياتهما ويتخذهما الناس عامة والشباب خاصة مثالًا وقدوةً. _____________ *القصة مقتبسة من خطبة المرجعية الدينية الخطبة الثانية يوم الجمعة في الصحن الحسيني الشريف التي ألقاها سماحة السيد احمد الصافي بتاريخ 1ذي القعدة لسنة 1437.

اخرى
منذ 4 سنوات
445

زفاف أم عزاء؟ عريس أم شهيد؟

بقلم: شفاء طارق الشمري كل ليلة تحلم بزفاف ولدها الوحيد، الذي لطالما كبر حتى أصبح في العشرين، كأنه زهرة تبث رحيقها أينما حلت في البيت لقد كان ابن العشرين لكن لهيبته فكأنه ابن الأربعين، وعقله في الخمسين، وحكمته من الستين، لقد كان مختلفاً عن أقرانه حتى في كلماته التي ينتقيها. وفي يوم ارتفع فيه صوت المرجعية وهي تنادي بالجهاد الكفائي لم يكن ممن يهابون الموت... لقد كان في قلبه حب للعروج نحو السماء، لقد كان قلبه ينتظر الناطق لينطق بالجهاد الكفائي، كان يجلس في أول صف من صفوف صلاة الجمعة وهو متلهف لسماع كلمات الخطبة... الجميع يبحث عن حلول للأزمة إلّا هو يبحث عن دواء لروحه المحلّقة في سماء الآخرة. ما أن نطق الخطيب بالجهاد الكفائي حتى سقطت الدموع من عينية الرماديتين كأنهما رماد الحرب، ففيهما ألف حكاية سترويها له الأقلام. في فجر أحد الأيام تحت شجرة السدرة المباركة، نظر لشموخ القبة الحسينية فابتسم... كان الذي ينظر إليه يشعر أنه هادئ بل في قمة الهدوء، لكنه في الحقيقة بركان من الحمية، فالغيرة اشتغلت في فؤاده، خر ساجدًا على الأرض وابتلت الأرض بدموعه وأخذ يردد: الحمد لله ثم توجه نحو الحسين (عليه السلام) قائلًا: شكرًا لك سيد الآباء لمنحك لي فرصة الجهاد. ربت والده على كتفه وكأنه يعلم بقرار ولده لكن أراد أن يرى رأيه: بماذا تفكر يا بني؟ علي: أفكر بأنّي إن لم أتوجه للساحات وأُلبّي نداء المرجعية فلا حاجة لأن أقول يا ليتني كنت معك، لأن الفرصة قد أتت يا أبي لأُحقق حلمي. نظر إليه الأب بعيون دامعة ولم يهمس ببنت شفة. خرجا من الحضرة الحسينية، رفع يده ليُحيي الإمام الحسين بتحية عسكرية ثم التفت تجاه أبي الفضل وكرر الفعل وكأنه أخذ من الإمام الحسين (عليه السلام) الأذن ومن الإمام العباس (عليه السلام) إلهام القوة. عادا إلى البيت فاستقبلتهما والدته ابتسمت وقالت: أخيرًا يا بني وجدت لك زوجة تشاركك طريقك الديني. لم يتكلم هو بأي كلمة بل اتجه إلى غرفته، أما الأب قد ظهرت على ملامحه سمات الحزن. تفاجأت الأم وسألت الأب فأخبرها عن قرار ولدها، لم يسع قلب الأم هكذا قرار فدخلت لغرفة ولدها ودُهشت عندما وجدته حقًا عزم على الالتحاق وبدأ بتحضير حقيبته، بكت الأم وجلست أرضًا تقدّم نحوها وقبّل يديها قائلًا: ارجوك يا أمي لا تحرميني من هذه النعمة العظيمة لطالما تمنيت هذه اللحظة كثيرًا. الأم: لطالما حلمت أنا في يوم زفافك وأرى أولادك، أنت ولدي الوحيد ومن حقي أن أُحافظ عليك. علي: أُمي الغالية إنها فرصتي للالتحاق بركب الحسين (عليه السلام)، إنّ زفافي هو عندما أعود إليك شهيدًا ونعشي ملفوف بعلم الحرية علم وطني الذي لطالما نزف كثيرًا. اجهشت الأم بالبكاء. وحدد يوم الالتحاق… قضى آخر ليلة في غرفته، ولقد كسر صوت الليل بدموعه وترتيله لآيات القرآن... خرج من غرفته واتجه لغرفة أخته الصغيرة وجدها نائمة قبّلها في جبينها وردد في قلبه قائلًا: (حفاظًا عليك وعلى حجابك سألتحق بساحات القتال) لم ينم طوال الليل وكأن غدًا عيد… كان ينتظر شروق الشمس، لم تسقط السبحة من يده كان يدورها طوال الليل. وبعد صلاة الفجر ودعاء العهد... ارتدى ثوب المجاهد وشد على جبينه قطعة من قماش الحرير الذي كان يكسي مرقد العقيلة (عليها السلام). تلك القماشة الرقيقة لها قيّمة عنده، فقد كتب عليها: يا زينب... قبّل رأس أمه ويدي أبيه وحضنَ أخته الصغيرة مودعًا لهم، خرج مسرعًا حتى لا يطول الوداع ولا تكثر الدموع، خرج يسير بسيرة الأبطال مرددًا أدعية وأوراداً، وهنا لاحت له تلك الفتاة التي تقدم لأخيها حقيبة الوداع قائلة: اذهب يا أخي ولبِّ دعوة المرجعية، فيوم زفافك هو شهادتك يا أخي أفرح قلب أُمّنا الزهراء (عليها السلام). قال في نفسه: يبدو أنّ هناك من تجاهد قلبها ولا تستطع أن تلتحق بالساحات. سار ووصل نحو ذلك الشاب وأخته وألقى السلام. فقال الشاب: يبدوا أني وجدت رفيقًا إلى جنة الحسين (عليه السلام). ومضت الأيام ويُجرح هذا ويسقط ذاك شهيدًا وتعرج الأرواح إلى السماء، وقلب بطلنا يعتصر ألمًا، ألم يحن موعد العروج بعد؟! وعند أول إجازة استقبلته أُمّه بالأحضان والدموع، وأخبرته أنها وجدت من تشاطره طريق الجهاد... لم يخطئ حينما خمّن، فمن غير تلك الفتاة التي تُودع أخاها تحتمل الخطبة لمجاهد، إنها صورة من صور التضحية. وبعد أشهر من عقد القرآن وذهابه وعودته من الساحات حددوا موعد الزفاف... كان الجميع متحضرًا وفرحًا لهذا الزفاف إلّا هو يشعر بأنّ موعد عروجه قد حان... وفي صباح عيد الأضحى.. الكل متهيئ لزفاف هذا المجاهد، والأم لا تسعها أرض ولا سماء من الفرح، فاليوم ليس عاديًا فاليوم زفاف ولدها الوحيد. لكن... القدر فاجأها بعرسٍ أسود لقد أخبرها القدر أن تُبدل ثياب الفرح إلى العزاء.. لقد سمعت صوت النساء وصراخهن خارجًا وضجّت المدينة، خرجت لترى ابنها قد جاءها شهيداً مبتسماً من ساحات القتال لم تصدق ما تراه عيناها لقد كانت تنتظر وصوله لا وصول نعشه.. فقالت لها إحدى النساء: هيا لتزفي ولدك قد جاء ليرفع رأسك. أصبحت النساء تنشر الورود خلف الجنازة، وقفت الأم معاتبة الدهر واقفة على أبواب الزمان قائلة: يا ولدي قد أوقدت شمعة زفافك بيدي.. وخلف جنازة عرسك أقمت المآتم... بدموعي أزفك.. وانثر الورود خلفك.. ها هي الورود أبذلها بكاءً.. ودمك يا بني قد حنّى يدي... هل علي أن أرمي الورود والعطور والبخور خلف جنازة الشاب الوحيد.. لقد بلغت مرادك وتركتني أُصارع موت الحياة ، فها هو علم العراق قد لففت به كما تمنيت.. هذه هي الابتسامة أراها على شفتيك.. أراها تعلو.. كيف لا وأنت ملاقي اليوم الحسين (عليه السلام).. تغادر جنازة الشاب الشهيد.. فنجف الزفاف قد تهيأت! وعروس وادي السلام قد تحضّرت! يغادر شهيد الحرية، أبواب البيوت مودعًا، أبوه مكسور الظهر تاركًا، وأمه مفجوعة القلب ثكلى... وأختٌ كسرها الزمن فأين كفيلها في المحن؟ يسارع نعشه كأنه طائر يُحلق في جنة العاشقين… كيف لا وهو ملتحق في ملكوت الحب في سماء جنة الحسين (عليه السلام).. يتقدم الأب قائلًا: ولدي بعدك أصبحت القلوب فجيعة.. والبيوت كئيبة ، فما طعم الحياة إن كنت تاركها، وما لون الدنيا إن لم تكن أنت بها، مالك تسير إلى الموت بقدميك؟! ولا تسلم علي قبل الذهاب.. وكأنك تقول: إني ذاهب إلى نجف الأحباء... إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)... إلى نور الأنوار... لأكون في جوار علي الكرار... وتعرج روحه وتنظر إلى الأهل والأقرباء لتقول: إننا رجال أبينا الجلوس في البيوت وبلدنا ينزف، أبينا الجلوس في البيوت وبلدنا يحترق بنار الأعداء، فقد كتبنا بأحرف من الدم والدموع على صخور تلعفر: أنا مغادرون... إلى الحسين راحلون...

اخرى
منذ 4 سنوات
701

نسيم الانتظار

بقلم: شفاء طارق الشمري من نافذتي تتطاير أوراق مكتبي... ها هو النسيم العذب إليَّ يهوي.. سألته: أين حبيب زماني؟ أين ابن الكرام؟ أين ملاذ العشاق؟ لم يجب نسيم الحب... فأجبته: إلّا يا نسيم الحب في سماء قلبي... قد اشتقت إلى معشوق وجداني... إنه نور يشع في سماء الأكوان... وشمس تسعى إلى نشر الدفء والأمان... فيحرر الأرض من الجور والعدوان... ولكن هل عرفته؟ إنه مهدي الزمان... يرد النسيم قائلًا: وهل من صفات العشاق أن ينسوا حبيب الأرضِ والسماء؟ إنه ابن فاطمة وحيدر الكرار الطالب بثأر الأولياء.. رغم التخلي عنه أسمعه ينادي في جوف الليالي رافعًا يده نحو السماء: اللهم احفظ شيعتي والأنصار.. هنا تطايرت ورقة من مكتبي كتبت عليها: ماذا يا يوسف الزهراء؟ ألم يحن موعد اللقاء؟ دموع القلب تفطرت شوقًا إلى رؤياك... وحبر القلم يبكي بكتابة رسالة الشوق للأحباء.. هنا طارت الرسالة خارج النافذة حاملة معها سلامي وحبي ودموعي إلى مليك روحي وفؤادي.. عندها سمعت نسيم الانتظار ينادي.. أنه العشق المهدوي..

اخرى
منذ 4 سنوات
449

كن أنت عباسيًا… لتجدها زينبية

بقلم: شفاء الشمري إلى الشباب... أنتَ احذر! احذر أن تَمُد يدك على حاجة غيرك لتسرقها.. احذر من مصافحة فتاة وإن كنت من أقربائها.. احذر أن ترفع يدك على أختكَ أو زوجتكَ فتضربها فهذه ليست رجولة.. احذر أن ترفع يدك يومًا بوجه أمك التي شقت في تربيتِكَ.. احذر من مسك مال الحرام فإنّه يوصلك إلى أسفل سافلين.. احذر من تلك الصدقة التي تسعى فيها بالرياء... احذر من يد قد تجرك إلى عالم الضياع.. وأنتِ احذري! يا فتاتي أيتها الزهرة الجميلة حافظي على نقاوة روحكِ… احذري.. من رفع يدكِ بوجه زوجكِ… احذري... من إسراف يدكِ بالمال فهناك من تجلس في الطرقات تسأل هذا وذاك أن يعطيها القليل. احذري... من خدعة شاب لك بزهرة تمسكها يدك لتعلمي أن إثمُها سيظهر بجرحك بأشواكها التي كنت تظنينها ناعمة... احذري أن تستسلمي بسهولة لهذا وذاك وتجعلينه بسهولة يمسك يدك، فأنتِ غالية بل وغالية جدًا... احذري من تلك اليد التي تجركِ للبحث عما حُرِم... احذري من تلك اليد التي تقودك لإمساك الهاتف ساعات طوالا بالحرام... احذري من تلك اليد التي تبعدك عن مسالك الخير والإيمان احذري من يدك التي تتوسل إليك أن تزينيها بزينة محرمة بين خاتم وسوار... احذري من يدك التي تحب الحرام… كوني في محطة الايمان دائمًا لتركبي في قطار المسافرين لجنة الله تعالى... لتكن يدك هذه مرفوعة دائمًا بين دعاء وذكر وسبحة تدور بين أناملك، وتسبيح الزهراء (عليها السلام) لا يفارق يدك قد جرى كشريان في أوردتها.. ليتحرك بين يديك قلم الإيمان حتى يخط كلمات وحروفاً صادقة من حب القرآن... احذر واحذري... من تلك المعصية التي تلوث يدك فكر/ فكري قبل كل معصية تكون يدك هي شاهدة عليها أنّ هناك قمرًا قد ترك يديه على صحراء كربلاء ليبقى الدين مصاناً… تذكر أنّ أبا الفضل العباس (عليه السلام) قد ضحى بيديه في سبيل الدين.. لذلك حافظ أنتَ على صيانة هذا الدين. تذكرا أنّ ذاك القمر قد ضحى من أجلكَ ومن أجلكِ لذا كونا فعلًا فدائيين وقيدا يدًا يُزينها الشيطان.. في الختام قبل أن تفكر بشريكة زينبية.. كن أنت كالعباس.. كما تقول الحروف المعبرة، كن أنت كالعباس تجدها كزينب...

اخرى
منذ 4 سنوات
451

سلسلة شذرات رمضانية: الشذرة الأولى: الصيام إنسانية

بقلم: شفاء طارق الشمري بينما كانت يداي تُحضّر السحور لصيام يوم آخر من أيام شهر رمضان، سمعتُ ابن جارنا الصغير يقول لأمه: أُماه متى نفطر؟ سقط الصحن من يدي وارتجف جسمي واقشعرت شراييني… هل حقًا هذا؟ لا أصدق… كيف فطرت؟ والآن أتسحر ولا أعلم بحال جاري يا حسرتي على غفلتي.. يا خجلي من إمام زماني... ذهبت مسرعة لبيت جيراني، قمت بتقديم السحور فطوراً لهم! ما أكثرها من لحظات قاسية، هنا تذكرت أنّ إمامنا أمير المؤمنين أبا اليتامى والفقراءِ، حيث قال جملة هزت عرش كل من يدعي المروءة: (لو كان الفقر رجلا لقتلته). ما أعظمك مولاي! ونحن الآن نجد من يجلس ويتفاخر بتناول ما لذ وطاب وهناك من جعله الجوع لا يميز السحور من الفطور.. ما أقسى تلك القلوب التي تشبعت بالتفاخر والغنى اللامحدود؟! تراهم يتفاخرون على الفقير وينشرون هذا في الإعلام، وكأنهم يقطعون بالسيف حياة الفقير بحربهم المبهمة المتسلحة بالنعومة. وهل الصيام إلّا إنسانية ورعاية للقلوب الفقيرة، رغم كون الموقف أبكاني لكنه أفرحني في ذات الوقت لأني رأيت ابتسامة صاحب الزمانِ.. فنظرت إليه قائلة: وانت كيف حالك أيها الصائم الغائب عن الأبصارِ..؟

اخرى
منذ 4 سنوات
681

الإمامُ المُنتظر في ليلةِ القدر

بقلم: شفاء طارق الشمري عندما نقرأ القرآن تستوقفنا آياتٌ كثيرة تحتاجُ إلى تأملٍ ومعرفةٍ، ومنها قوله (تعالى): "وما أدراك ما ليلة القدر؟". ويتساءل الكثير لماذا هذه العظمة لليلة القدر؟ ما سرها؟ وفي مقام الجواب ذكروا جملةً من الأسرار، نقتصر على اثنين منها: أولًا: إنّها ليلةٌ عظيمةٌ، وذكرها الله في كتابه "خيرٌ من ألف شهر". ثانيًا: إنَّها ليلةٌ تهبطُ الملائكةُ فيها من السماء بإذن الله (تعالى) على نور الله في الأرض وبقيته صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)؛ لتوقع وتسجل الأقدار، قال (تعالى): "تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلِّ أمر". من هنا سننطلق لنبين القضية المهدوية في رحاب الليالي القدرية، فليلةُ القدر معروفةٌ ولا يوجد إشكالٌ في أحقيتها وفضلها كما أحقية وجود صاحب الزمان (عجل الله فرجه)، وهي ليلةٌ لها ارتباط جدًا وثيق بالإمام (روحي له الفداء)؛ لأنَّ الإمام هو من يوقع الأقدار، وهو من تنزل الملائكة عليه حتى مطلع الفجر، ومن أنكر الإمام فقد أنكر ليلة القدر، وقد يسأل سائلٌ ما: وكيف ذلك؟ نُجيب: إنَّ ليلة القدر لم تظهر في الإسلام وحسب، بل منذ زمن الأنبياء (عليهم السلام) وفي هذه الليلة تنزل الملائكة على نبيٍّ أو وصي؛ لتسجل أقدار العباد، فقد روى ابن كثير قال: سألت أبا ذر قلت: كيف سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ليلة القدر؟ قال: أنا كنت أسأل الناس عنها قلت: "يا رسول الله أخبرني عن ليلةِ القدر أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال: "بل هي في رمضان". قلت: يكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قُبِضوا رُفِعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال (صلى الله عليه وآله): "بل هي إلى يوم القيامة". ومادامت هناك ليلةُ قدرٍ، يعني وجود حجةٍ على الأرض سواء كان نبيًا أو وصيًا؛ لأنَّ وجود ليلة القدر باقٍ إلى يوم القيامة، ولا ليلة قدرٍ إلا بوجود حجةٍ على الأرض تتنزل عليه الملائكة، ونعلمُ أنْ لا حجةَ على الأرض غير الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، فهو بكلِّ تأكيدٍ الحجة الذي تنزّلُ الملائكة عليه؛ لتقرير مصير الأمة والعباد. وقد روي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا معشر الشيعة خاصموا بسورة إنا أنزلناه (تفلحوا)، فواللهِ إنَّها لحُجةُ الله (تبارك وتعالى) على الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنّها لسيدةُ دينكم" وهذا أدلُّ دليلٍ يدحض دعوى ناكري القضية المهدوية. فإنْ حاول أحدٌ رفض هذا الدليل، سألناه تفسير قوله (تعالى): "تنزل الملائكة والروح فيها"، فـ(تنزلُ) فعل مضارع تدلُّ على الاستمرار، إذن على من تنزل الملائكة؟ لاشكَّ أنّها تنزلُ على نبيٍ أو إمامٍ، ونحن نعلمُ أنَّ جميع الأنبياء (عليهم السلام) قد رحلوا، والأئمة (عليهم السلام) كذلك، ولم يبقَ منهم إلا الإمام المهدي (عجل الله فرجه). فمما لاشكَّ فيه أنَّ الملائكة تنزلُ عليه، وقد قال شيخ الأزهر في كلمةٍ له لتبيان معنى هذه الآية: "إنَّ المراد بتنزل الملائكة هو تنزلها لتبليغ أحكام الدين إلى النفس الكاملة". ومن تُراه ذا نفس كاملة غير الإمام المعصوم. وقد فُسرت هذه الآية على مفهومٍ مختلفٍ، أنّها نزلت على الرسول (صلى الله عليه وآله) بالقرآن وانتهى زمنها، أي أنّها آيةٌ تتحدث عن نزول القرآن الكريم على النبي العظيم باستنادهم إلى الآية "شهر رمضان الذي أنزِلَ فيه القرآن"؛ إلا أنَّ هذه الآية تبين أنَّ القرآن قد نزل في شهر رمضان وهذا لا يشكُّ فيه أحدٌ، ولا تُجيب عن سؤالنا على من تتنزل الملائكة؟ فعلينا أنْ نفهم هذه الليلة، وارتباطها بإمام زماننا (عجل الله فرجه)، ونستثمرها في التضرع إلى الله وطلب المغفرة والرضوان.

اخرى
منذ 4 سنوات
2370

الطفولةُ في كربلاء.. الإمامُ الباقر انموذجًا عظيمًا

بقلم: شفاء طارق الشمري من المعروفِ أنَّ الاطفاَل يحملون أحاسيسَ رقيقةً، وينبغي أن يُجنبوا رؤيةَ مشاهد العنف والقتل أو حتى الشجار؛ لأنهم بلا شكّ سيخافون ورُبَما يمتنعون عن الكلام، أو حتى الطعام والشراب.. ويذكر علمُ النفسِ الأثرَ السلبي على الطفلِ فيما إذا شاهدَ مشاهدَ القتلِ والعنفِ والدماءِ، حيثُ تسببُ له الإرباك النفسي ويُلازمه الخوف دائمًا من القتل أو الخطف فيُصبحَ انطوائيًا منعزلًا عن الناسِ ورُبّما يُصابُ بالتوحد. لكن صفحات التاريخ تشهدُ، ولسان القلم ينطقُ، وأوراق الحقيقة تتقدّمُ في محكمةِ الإنسانية.. فما هو رأيّ علم النفس والإنسانية بسلبِ الطفولةِ، والقيام بمشاهدِ الرعب أمام الأطفال؟ فلقد شَهِدَ طفلٌ كربلاءَ بكلِّ أحداثها ورأى بناتِ الرسول (صلى الله عليه وآله) يتراكضن بين الخيامِ المحروقة، وكان قد شهِدَ فواجعَ الهاشميات بإخوتهن وأولادهن، يرى أعمامه وأجداده يسقطونَ واحدًا تلوَ الآخر، يرى جدّه الحُسين وحيدًا في ميدانِ القتالِ يُنادي: "ألا من ناصرٍ ينصرني" يرى عليلًا يُحاربُ سيوفَ المرض ليهُمَّ بالوقوفِ ثم يسقط، فقد أخذه المرض، كان يرى الظالمين وجُرأتهم على حزِّ رأسِ ابنِ بنتِ نبيِّهم، يرى الظالمين يرفعون رأسَ خيرِ الناسِ على الرماح .. يرى خيامًا تُحرقُ، ونساءً تُسبى، وأطفالًا تبكي، لم تحمل قلوب الظالمين أيَّ رحمةٍ أو شفقةٍ على أطفالٍ ونساءٍ ليس لهم ناصرٌ ولا معينٌ.. فحتى الطفولة قد قتلوها، وانتهكوا صرحَ القيَمِ الإنسانية، كيف لا وهم قتلوا طفلًا لم يتجاوز الستة أشهر من عمره، لا ذنب له سوى أنّ والده طلب له ماءً، فكان ردُّهم سهمًا يقطع نحرَ الرضيع، فكان عبدُ الله الرضيع أصغرَ شهيدٍ بطفِّ كربلاء، وأعظمَ شاهدٍ على الجُرمِ والوحشيةِ التي يُمارسها بنو أمية. وطفلةٌ كانت تبكي على أبيها فأتوها برأسه مقطوعًا! ولو أتيتَ برجلٍ يحملُ قلبًا قويًا وأريته رأس شخصٍ مذبوحٍ لرأيته يرتجفُ من الخوفِ.. فما بالك بطفلةٍ صغيرةٍ؟! فها هي رقيةُ بنتُ الحسين تنادي: أين أبي؟ فيؤتى لها برأسِ أبيها، فتحتضنُ الرأسَ باكيةً وللدنيا مودعة. وقيل: إنّ هناك أطفالًا داستهم الخيل بحوافرها، وأطفالًا فروا كأطفال مسلم بن عقيل، وآخرين لاقوا منيتهم من الظمأ فرحلوا عُطاشى.. ونجدُ أحدَ الأطفالِ راويًا، وعلى الظالمين داعيًا، وبيومِ الحشرِ مُذكرًا، فاعقلوا يا أولي الألباب .. حيثُ نجدُ طفلًا صغيرًا بعمر الأربعة أعوامٍ يروي أعظمَ مجزرةً عرفَها تاريخ الإنسان، هذا الطفلُ الذي كانَ قد شاهدَ كلَّ ما حدثَ في كربلاء، هذا الطفلُ الذي حارب بسلاحٍ عظيمٍ وهو سلاحُ البكاء؛ إذ لم يكنْ يملكُ إلا هذا السلاح، وذلك القلم الذي باتَ يُسجلُ أحداث الطف.. كان راويًا يروي ويمسكُ بقلمه فيبكي، أيُّ رزيةٍ هذه وأيُّ مصيبةٍ تدفعُ طفلًا لأن يروي فاجعةً أرعبتِ الرجال. كان يسمعُ صوتَ تلاطمِ شرارةِ السيوف التي باتتْ تحدثُ برقًا ورعدًا بينها.. ويرى القمرَ ارتفع من جوارِ الماءِ وحلَّق في ملكوتِ السماء.. كان يرى تلكَ المرأةَ الشامخة التي تقفُ لتنظرَ إلى الواقعةِ بشكلٍ متكاملٍ، كانت ترى بوضوحٍ ألوان هذه اللوحةِ من الدماءِ الطاهرةِ، الكلُّ ينتظرُ منها صرخةً، الكُلُّ ينتظرُ منها دمعةً، لكنّها ردتْ عليهم قائلة: "والله ما رأيتُ إلا جميلًا " كان يرى مشاهدَ قاسيةً حيثُ كانتْ زينبُ (عليها السلام) مقيدةً والإمام السجادُ (عليه السلام) مقيدًا، وقد توّرمت قدماه، وسالت منه الدماء، وهم يضربونه بالسوط.. كانت حرارةُ الشمس الحارقة تسقطُ عليهم، كانوا يمرّون من بلدٍ إلى بلد، يشمتُ بهم الأعداءُ.. كان الأعداءُ يضربون الأطفال والنساء، وكانتِ الأشواكُ التي في الطريقِ تُمزِّقُ أقدامَهم، ولم يبقَ حجر إلا وقد تعثّروا به .. كم رأى هذا الطفلُ من مصائبَ والآلامٍ؟! كان الظالمون يجهلون هذا الطفلَ و يجهلون مقامَه وعلمَه، كان هو يرسمُ لوحةَ الطفِّ رغمَ حرارةِ الورق وبكاءِ الألوانِ الدامية فيها، لكنّه أحسنَ رسمَها ونقلَها للتاريخ، كان يستمعُ ويرى، ولا ينبسُ ببنتِ شفة سوى دموع عينيه الشريفتين؛ لأنّه مُدرِكٌ أنّه سيأتي يوم يقفُ فيه الظالمون بين يديّ الله تعالى ليجدوا حسابًا عسيرًا كان يرى نورًا من جسدِ الحُسينِ (عليه السلام) يُعانِقُ السماء، الحُسينُ (عليه السلام) يُكلِّمُ الملائكةَ بلغةِ الملكوت، وفتحَ أبوابَ السماءِ لمن استشهد بين يديه.. مشهدٌ أخيرٌ يُكملُ لوحةَ هذا الطفل، حينما ألقت السيدةُ زينب (عليها السلام) تلك الخطبةَ التي اتسمت بالشجاعةِ العلوية، والروح الفاطمية، ثم اعتلى زينُ العابدين (عليه السلام) منبرَ الكلماتِ وخطَّ أروعَ ما كتب في صُحُفِ السماء.. كان التاريخُ يروي أحداثه، والطفلُ يشهدُ وينقل للأجيالِ قصةَ معراجِ الدم.. وأنهى كتاب الدماءِ بقوله: "قُتِلَ جدّي الحسين ولي أربعُ سنين، وإنّي لأذكرُ مقتله، وما نالنا في ذلك الوقت" وخشعتِ السماء، فقد رأى كربلاء بكل رؤاها .. وشهد طفلُ كربلاء قتلَ الطفولةِ والإنسانيةِ، فكان الإمامُ الباقر (عليه السلام ) نموذجًا يُمثِّلُ الطفلَ في واقعةِ كربلاء، حيثُ كان مصداقًا يروي ما جرى في كربلاء ومصرع سيد الشهداء، فكان أعظمَ راوٍ لفاجعةِ التاريخِ الأليمة التي أضحتْ منهجًا فكريًا وثوريًا في طريقِ كُلِّ إنسانٍ حر، وأعظمَ شاهدٍ على هذه المجزرة التاريخية .. وكان لكربلاء أثرٌ أليمٌ وعظيمٌ على طفولة إمامنا الباقر (عليه السلام )، لكن هل منعه ذلك من إيصال رسالته؟ هل بقي يعيشُ ذكرياتِ الطفِّ دون أنْ يوصلَ مفهومَ الطفِّ إلى الناس وسبب نهضة الإمام (عليه السلام)؟ كلا، بل قدّمَ من العلوم ما جعل من قال فيه: إنّه بقر العلم بقرًا.. ونجدُ الإمامَ يوصلُ رسالةً عظيمةً، فرغمَ قسوةِ ما قاساه من ألمٍ ومصيبةٍ في كربلاء نجدُه يُفهِمُ الناسَ فكرَ الحُسين (عليه السلام) ومكانتَه التي حاولوا تشويهها فصدّق أهلُ الجهل وفاقدو البصيرة، فكان الإمامُ الباقر (عليه السلام) يروي للناسِ أحداثَ الطفِّ ويحدثهم بما جرى من مصائب.. كان يبثُّ في الناسِ روحَ القيَمِ والمبادئ الحسينية، ويحثُّهم على زيارةِ الحُسين لكي يستلهموا من فلسفةِ الثورة والقيم التي تركها الإمام حيثُ يقول: "مروا شيعتنا بزيارةِ الحسين بن علي، وزيارته مفروضةٌ على من أقرّ للحسين بالإمامة" وبعد رحلةٍ من العناء طويلة، وبعد البكاء والآلام والظلم، وبعد رحلةٍ قاسية في هذه الحياة، شهدها الإمامُ الباقر(عليه السلام)، ها هو في اليوم السابع من شهر الله شهر ذي الحجة، قد سرى السمُّ في عروقِه على يدِ طاغيةٍ من طغاةِ عصره.. ها هو في لحظاتِه الأخيرة، يجلسُ بقربِه ولده الإمامُ جعفر الصادق (عليه السلام)، ها هو الإمامُ يوصي ولده بأنْ يُكفِّنَه في ثلاثة أثواب، أحدُها رداءٌ له جدة، كان يُصلّي فيه يومَ الجمعة، وثوب آخر وقميص، وأوصى أنْ يُشقُّ له القبر شقًا، وأضاف فإنْ قيل لكم إنّ رسولَ اللـه لحد له فقد صدقوا. وأوصى أنْ يُرفعَ أربعة أصابع، وأنْ يُرشَّ بالماء، وأنْ يوقفَ من أموالِه قدر لكي تندبه النوادب بمنى عشر سنين أيام المنى.. ومن وصاياه لابنه الصادق (عليهما السلام): "يا بُنيّ إنّ اللهَ خبّأ ثلاثةَ أشياءٍ في ثلاثةِ أشياء: خبّأ رضاهُ في طاعته، فلا تحقرنَّ من الطاعةِ شيئًا فلعلَّ رضاءَه فيه، وخبّأ سخطَه في معصيتِه فلا تحقرنَّ من المعصيةِ شيئًا فلعلَّ سخطَه فيه، وخبّأ أولياءه في خلقِه فلا تحقرنَّ أحدًا فلعلّه ذلك الولي". ها هو باقرُ علمِ الأنبياءِ والاوصياءِ الذي وهجت كلماتُه وعلومُه كتبَ المعارفَ فأنارتها ها هو سيّدُ العلومِ يُمدِّدُ رجليه، وينطقُ الشهادتين، وتفيضُ روحُه الطاهرةُ إلى الباري، يودِّعُ الإمامُ الحياةَ ليعرجَ إلى كوكبِ النور الإمام الحسين (عليه السلام) بعد سنواتٍ من الشوقِ .. ها هو يلتقي بسيّدِ الشهداءِ في ملكوت الله.

اخرى
منذ 4 سنوات
1223